مدينة عطبرة قبل وبعد الحرب
أبو أحمد
إنها المحطة الفارقة، او يجب أن تكون، في حياة سودانيّ الخرطوم، إن يستيقظ الناس علي صوت رصاص متقطع كان محله أفراحهم أو ربما أتراحهم.
لم يمض أسبوع الحرب الأول إلا وبدأت رحلة النزوح من الخرطوم. نزوح في بدايته كان محل تهكم حتي من بين أفراد الأسرة. كان منهم من يري إنه الرأي السديد ومنهم من يري إنه هروب بلا مسوغ. وبنهاية الشهر الأول أدرك الأخيرون صحة فرضية الأوائل وكنت منهم لأجدني في مدينة عطبرة مع كثيرين، حيث سبقتني أسرتي الصغيرة.
استقلينا أنا وجيراني حافلتهم الصغيرة التي تحمل أسرتين. ويدور النقاش بين احتمال البقاء بمدينة عطبرة أو إعتبارها محطة مؤقتة. الوجوه تعلوها مسحة حزن وخيبة أمل والإحساس بالارتماء في حضن المجهول مع حسرة الاقتلاع. الهواء في الطريق يلفحك بغيظ وحر ليس ككل حر. وطعم الماء لا تكاد تتبينه هل للارتواء أم يزيدك احساساً بالعطش.
وجدتني فجأة بين بناتي وهم يحتضنونني بلهفة اللقاء الذي كاد ان يتبخر. ما أصعب أن يستقبلك من هم في حمايتك وأنت في أضعف حالاتك.
أدركت صلاة المغرب بمسجد عباس بحي الحصايا لأسمع أحدهم يستجدي التبرعات لضيوف الخرطوم للعشاء بالمسجد. وبالفعل عدد الصفوف في الصلاة يحدثك عن الوضع فوق العادة. التقيت بعض معارفي من جيران الخرطوم وعلي مضض سلمنا علي بعض والكل يخبرك إنه يقيم مع الأهل.
ازدحمت شوارع عطبرة الجديدة وبيوتها القديمة كما الجديدة، وحتي مشاريع فنادقها وبناياتها الجديدة، إزدحمت بالأفواج القادمة من الخرطوم واكتظت شوراعها بسياراتهم.
ما بين إنسان وانسانية عطبرة القديمة وخزي وطمع واستغلال أهل عطبرة الجديدة تفرّق ما تبقى من دم نازحي الخرطوم. تجد بيت مساحته٢٠٠متر مربع يقطنه مع أهله اكثر من أسرة، فيما تجد إيجار بيت عتيق أو جديد بلا ادني مواصفات بمليون جنيه.
صحيح لم تشيّد معسكرات للنازحين، كما لم يوصف احد بنازح ولكن مقبل الايام تنبيء بتحولات كبيرة طالما احتجناها لإعادة النظر الي ذواتنا أولًا وتقزيم الإدعاء الكاذب المغلف بأجمل النعوت. نحن بشر بيننا المخطئين، وبيننا من تسمو إنسانيته لأعلى مستوى.
تقل مدة إقامة الخرطوميين أو تزيد، فلا بد إنها تاركة بصمتها علي العطبرتين الجديدة والقديمة، وهذه صيرورة وسيرورة الزمن.