عالقون مع أبنائهم - 2
التقي محمد عثمان
كل احياء مدينة الخرطوم ممثلة هنا. من الحلفايا حتى الشجرة، ومن الثورة حتى المعمورة، مع غياب تام للأحياء الطرفية، الكلاكلة الحاج يوسف مايو أم بدة. آباء يحضنون أولادهم، يراقبون حركتهم نهاراً وينامون إلى جوارهم ليلاً.
تلاحظ بوضوح أن الأواصر تمتنت بين الطرفين، يقول أحمد، ٢٢ عاما، في دردشة ليلية وسط الحوش مع انداده (انا ما كنت قايل ابوي دا حنين كدا). رصدت حين شح الطعام ذات مرة، اب يدس في يد ابنه آخر قطعة خبز وينهض من طاولة الطعام الأرضية يردد: اللهم أدمها نعمة.
كل القصة أن السلطات المصرية تتمسك بالشروط التي وضعتها في اتفاق موقع مع الحكومة السودانية، وتنص على أن السودانيين بين سن السادسة عشرة والخمسين ملزمين بالحصول على تأشيرة دخول الى مصر بينما كل الفئات الأخرى معفاة.
ولما كان كثير من السودانيين جنوب يحن إلى الشمال اتجهوا صوب مصر. التكدس في المعابر ومدن الشمال سببه ان النساء والشباب لا يملكون جوازات سفر، ومن يملك لم يحصل على تأشيرة، ومن حصل عليها تم الغاؤها نتيجة وقوع حالات تزوير. ظلمات بعضها فوق بعض، كما يظن الآباء العالقين مع ابنائهم.
يقول أبو عبد الله خالد أن ابنه الذي تجاوز الستة عشر عاما بشهرين لم يعد ممكنا اضافته إلى جوازه، ولا بد من وثيقة سفر. أضاف خالد بناته وأطفاله الأصغر الى جوازه لأن امهم لا تملك جواز سفر. يضيف بحسرة لو أن امهم استخرجت وثيقة سفر تستطيع أن تسافر مع البقية أما أنا فسانتظر مع عبد الله حتى يحصل على تأشيرة (اهو قدر اخف من قدر) يغمغم بوقار.
اقترحت على عمك فتحي حين برّحه الهم والغم على بناته مع امهنّ في الطرف الآخر من المدينة، (النساء والبنات انزلهن أهل دنقلا في الزهراء على بعد ٢ كيلومتر عن دار الرجال والاولاد في سوناسل). اقترحت عليه ان ارافقه إلى حيث هن حتى يخفف عنهن ويخففن عنه.
في الطريق حكى عن رحلة الهروب الكبير من داره في شارع الستين، قال (لم أكن أنوي الخروج لولا أنهم أحرقوا دار الاحصاء جوار منزلي). فتحي له اربع بنات وابن واحد يلازمه كظله. قال إن بناته لم يذقن طعاما منذ يومين بسبب الخوف والهلع، وهو وامهن تبعا لذلك لم يقربا طعاماً. ويعتزم فتحي إضافة البنات إلى جواز الأم إن تيسر الأمر والبقاء إلى جوار محمد إلى حين ميسرة.
هنا لا يملك أحد لأحد شيئاً. يتعايشون مع الأمر الواقع بصبر ويقين. يحكون حكاويهم ممزوجة بالأسى والحزن وبعض الغضب، ينتظرون فتح المعابر أو نهاية الحرب.