19/07/2023

بعد 90 يوما.. الحاج يوسف.. خريف الحرب وأمطار الرصاص

الحاج يوسف / مواطنون
تسعون يومًا مرت على الحرب، وخلال تلك الفترة التي تقدر بثلاثة أشهر، لم تتوقف اعمدة الدخان المتصاعدة من قلب الخرطوم المحروقة لحظة، حتى جاء موعد الخريف حزيناً، وانتظر الناس بيأس أن ينزل عليهم ماءً زلالًا يغسل الدماء ويطهر رجس القتال، ولكن ركام السحب التي تجمعت في تلك الأيام لملمت أطرافها وغادرت سماء الحاج يوسف مثلما فعل غالبية أهلها وسكان المنطقة الشعبية الشهيرة حينما حزموا حقائبهم على عجالة ورحلوا مجبرين إلى أماكن آمنة بعيدًا عن خريف الحرب وأمطار الرصاص.

وجه الحرب القبيح لم يغير جغرافية الحاج يوسف فلذة كبد منطقة شرق النيل، وإنما ضرب عمق نسيجه المتماسك بشكل مباشر، وفكك تركيبة اجتماعية مؤقتًا كانت نموذجا للتعايش السلمي بعدما أجبرت عدد كبير من سكانها مغادرة الحي الذي يتجاوز عدد سكانه عدة ملايين نسمة تقريبا، ويمتد من حي النصر جنوباً إلى تخوم الشقلة شمالاً، ومن القنطرة حلة كوكو غرباً إلى التعويضات أقصى شرق العاصمة الخرطوم.

مثلما فرغت البيوت من ساكنيها، فرغت الطرقات من المارة وأصيب الشوارع بما فيها الرئيسية بالشلل، سيما تلك المتاخمة للأسواق، والمؤدية إلى مداخل المجمعات الخدمية التي كانت تشهد في السابق نشاطًا منقطع النظير، ولكن اليوم من الطبيعي أن تجد شارعاً يمتد حوالي 1000 متراً خالياً حتى من تلكم القطط وبعض الكلاب المهجورة مع المساكن التي تحرس متاع البيوت دون أن تستطيع مواجهة اللصوص والسرقات المسلحة بالنباح.

أربعة أنواع هجرات غير مرتبة خرجت عجالة من بطن منطقة الحاج يوسف أثناء الحرب، فهناك مجموعة عادت للجذور في الموطن الأصل إجبارياً، فيما أختار رهط آخر من الناس الاغتراب في مدينة لا يعرفها، وبات جزءً من نسيج مجتمع جديد، والفئة الثالثة جرت بأقدام سريعة نحو المناطق الريفية المحيطة بالعاصمة الخرطوم والتي لا تبعد عن مناطق القتال 40 كيلو مترًا، أما المجموعة الرابعة الميسورة الحال فقد تخطت الحدود وغادرت إلى دول الجوار دون وضع اعتبار التكلفة المالية الباهظة.

حلمي معاطي ذلك الرجل الرياضي المطبوع والمثقف الذي يهتم بالأدب والشعر، أجبرته ظروف الحرب والمرض أن يغادر الحاج يوسف التي نشأ فيها وترعرع في مربع 2 الأسر الكبيرة، سافر رفقة أسرته إلى مدينة ود مدني 280 كيلومتر جنوب العاصمة الخرطوم بحثاً عن العلاج بعدما توقف مركز غسيل الكلى بمستشفى البان جديد وبعض المراكز، لكن حلمي رقد رقدته الأخيرة، مات هناك غريباً، لم تسمح الحرب اللعينة لاصدقائه، وإخوانه وزملائه أن يحملوا نعشه بأيديهم إلى مثواه الأخير، ولم يسمح لهم النزاع المسلح أن يودعوا جسده بالدموع وغزير الدعوات.

لم يكن حلمي المأساة الوحيدة للحرب في يومها التسعين، فهناك الكثير من قصص تدمي القلوب، حكايات قهر الأسر، سلب العائلات التي نزعت الطمأنينة من ثلث سكان منطقة الحاج الذين فضلوا البقاء تحت أمطار الرصاص ودوي انفجارات المدافع، وهم يحاولون ممارسة حياتهم الطبيعية، يذهبون إلى الأسواق التي تعمل بنصف طاقتها وكذلك المخابز، فيما يقضون باقي ساعات نهار اليوم فوق الكراسي أو تحت ظلال الأشجار.

على الرغم من حالة الحرب والقتال الدائر الذي أدى نقص في البضائع وارتفاع أسعار السلع الضرورية، إلا أن عملية التكافل الاجتماعي لا زالت قائمة بين ما تبقى من الأهالي الذين يتمركزون في شكل جماعات في كل شارع يتشاركون الطعام ويقدمون الشاي والقهوة، ولم ينته التعاون بين هؤلاء الأفراد عند مائدة الوجبات فقط، وإنما يمتد التعاون عند حراسة الأحياء ليلًا ويعتمدون على الصافرة والتنبيه من مكبرات الصوت بالمساجد لصد هجمات لصوص الليل وبعض من المسلحين الذين يستهدفون سرقة العربات عنوة، والعبث بمقتنيات المنازل الفارغة التي باتت تشكل خطراً أكبر من اللصوص.

يعد عوض علي وجاره عم السر وعبدو وسط مربع 20 بالحاج يوسف، نموذجا آخر لمتانة رابط النسيج الاجتماعي أثناء الحرب، حيث اعتاد الثلاثي الجلوس معًا عند الصباح، وفي المساء يتسامرون ويتناولون الشاي والقهوة، رغم أن رفيقهم الرابع محمد سيد قد غادر مؤخرا إلى بورتسودان، ولكن ذلك لم يمنعهم من استخدام خبراتهم في امتصاص مآلات الحرب وتفريغ الطاقة السالبة عبر القصص والتجارب وبعض النقاشات المثمرة رغم أن عوض يتذمر دائماً عندما يسمع صوت الدانات وطلعات الطيران الحربي والمسيرات، وهي نفسها التي جعلت عم السر على أهبة الاستعداد مغادرة الخرطوم في أي لحظة واللحاق بأفراد عائلته في منطقة تنقاسي بالولاية الشمالية.

ويقول الشاب أحمد المصطفي : أنا اسكن في شارع به أكثر من عشرين عائلة سافر منهم 15 عائلة، وتبقى فقط 5، وبات الشارع الذي كان آمنًا أكثر خطورة من ذي قبل بسبب السرقات المسلحة وزوار الليل، ونحن بالطبع لا نستطيع سوى حماية أنفسنا و حاجاتنا، ولا يمكن أن نجازف لحماية شخص ذهب وترك منزله مليئ بالأمتعة وبعض المقتنيات التي تسيل لعاب اللصوص.

ولم يكن صاحب المخبز هو الآخر أكثر حظًا من أصحاب المنازل المسروقة، فقد تعرض هو إلى عملية احتيال غريبة وذلك عندما جاء إليه اثنين مسلحين على شاحنة مليئة بجوالات دقيق رخيصة السعر، قام بشراء الدقيق ودفع المبلغ كاملًا، وبعد أقل من ربع ساعة جاءت مجموعة مسلحة أكدت له أن الدقيقة مسروق فاستعادوا الشحنة فيما خسر صاحب المخبز ماله والدقيق معًا.

تسعون يومًا مرت ولا زال القتال مستمراً، وربما يتوقف وحتى ذلك الحين ستظهر كل يوم مأساة لأن الحرب تعتبر الوجه القبيح للحياة.

معرض الصور