25/07/2023

الحرب التي قبل الحرب

يوسف حمد

في منتصف أبريل الماضي بدأ النزاع المسلح في العاصمة الخرطوم، ووقع بين الجيش وقوات الدعم السريع، وكانت دوافعه سلطوية محضة بين الجنرالين، عبد الفتاح البرهان، قائد الجيش من جهة، ومحمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع من الجهة الأخرى.

ويعد النزاع الحالي هو الأكثر دموية وهدما للعاصمة منذ معركة (كرري- ١٨٩٨)، حين استباحت قوات الاحتلال الإنجليزي، بقيادة كيتشنر باشا، المدينة الناشئة حديثا، وقتلت من فيها، معلنة نهاية الدولة المهدية ونهاية مشروع محمد أحمد المهدي ونائبه عبد الله التعايشي.

وفي فترة وجيزة، خلف النزاع الجاري حالة من الدمار والنزوح واللجوء، ما زالت عصية على الإحصاء والحصر بسبب استمرار القتال واستمرار التداعيات الممتدة المصاحبة لهذا النزاع الشاذ.

وتبدو تأثيرات النزاع ذات ارتدادات تطال مجمل مناطق البلاد لكونها تجري في رأس البلاد الكاسح ومنه إلى الجسد الكسيح.

ويتفق المحللون والخبراء على تأثير النزاع على دول الجوار السوداني؛ حيث استقبلت مصر، شمالا، على سبيل المثال، الآلاف من الارستقراطية المدينية التي كانت تعيش في الخرطوم، وهو ما يشكل ضغطا على القاهرة ذات الاقتصاد المتعب. بينما فتحت كل من تشاد في الغرب، إثيوبيا في الشرق، المعسكرات لإيواء اللاجئين الذين احتموا بهذه الدولة القريبة منهم.

داخليا، وقبل هذا النزاع بسنوات، كانت هناك حرب موازية تجري بأدوات أخرى مختلفة، هي الفساد والإهمال والمحسبوية وخطل السياسات التي ضمخت حقبة حكم الجبهة الإسلامية. كانت هذه الحرب مندلعة في أطراف وأواسط البلاد، وربما لا يقل ضحاياها عن الضحايا الماثلين؛ فعلى سبيل المثال، إنهار مشروع الجزيرة وانهارت امتداداته الأخرى. ويعد مشروع الجزيرة أكبر المشاريع الزراعية المروية في أفريقيا، ويقع في مساحة تصل إلى نحو 2.2 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة.

وبانهيار المشروع العملاق، انهارت بنية اجتماعية واقتصادية فعالة، كان المشروع يمثل، على الدوام، عمودها الثابت.

ضرب الانهيار في صميم حيوات القرى والبلدات التي يحتويها المشروع أكثر مما ضرب الحواضر، مثل ودمدني والمناقل والحصاحيصا، وغير تلك من المدن التي وفرت طريقة مقبولة لنمط من أنماط الاقتصاد والحياة العصرية الواعدة.

ففي غضون عقدين فقط كان الآلاف من مزارعي الكفاف في حالة مربكة بسبب السياسات الزراعية المطبقة في المشروع، واضطرتهم هذه السياسات، لاحقا، لترك القرى وهجر الزراعة هربا للبحث عن الحياة في العاصمة الخرطوم، أو قلة منهم اختاروا الهجرة للعمل كأجراء في دول الخليج الغنية.

الآن وبسبب النزاع السلطوي الدائر في الخرطوم، عاد الهاربون إلى قراهم القديمة، أو احتموا مع أسرهم بمدن الجزيرة البعيدة عن مرمى النزاع المسلح، لكنهم عادوا ولم يجدوا شيئا يعينهم على مواصلة الحياة في أدنى حدودها.

لقد كانت الخدمات الحيوية العامة ضئيلة في القرى والمدن، وضعيفة بما لا يقاس، ولا أمل للعائدين في حياة اقتصادية منتجة داخل المشروع المنهار أكثر مما انهارت العاصمة الخرطوم.

معرض الصور