الإفلات من الحرب إلى تداعياتها
يوسف حمد
قال بدر الدين بصوت منهك: أففف.. هذه تجربة لن أكررها ولن أنصح بها أحد! بيد أنه لا بدر الدين المرهق المتأفف ولا غيره من الناس لديهم الترف لتجنب هذه التجربة القاسية المؤلمة، وربما يكررها ألف مرة إذا كان يطلب لنفسه النجاة، أو أراد أن يحتفظ بمقتنياته، مهما بلغت قلتها وتفاهتها، من السرقة والنهب والسلب العلني.
هرب بدر الدين، مثلما فعلت أنا، وكذلك فعل الآلاف غيرنا. هربنا من نزاع يعد الأكثر دموية وهدما للمدينة منذ (معركة كرري) 1898، حين استباحت، وقتها، قوات الاحتلال الإنجليزي المدينة المهدوية الناشئة حديثا، معلنة نهاية الدولة المهدية ونهاية مشروع الصديقين، محمد أحمد المهدي وعبد الله التعايشي.
بدأ السودان دولة حديثة منذ 200 سنة تقريبا، لكن لا أحد استطاع هدم هذه البلاد وعرقلة فرص نهضتها مثلما فعل قائد الجيش الحالي، عبد الفتاح البرهان، وصديقه وحليفه السابق (عدوه الحالي) قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو.
لقد نفذ الحليفان في 25 أكتوبر 2021 انقلابا ضد حكومة مدنية انتقالية واعدة، وقتلا معا مئات الشباب من الثوار السلميين الذين ناهضوا الانقلاب بمواكب سلمية مأمولة. وبعد أقل من سنتين على الانقلاب، دخل الحليفان في حرب ضد بعضهما لدوافع سلطوية، وكانت حصيلتها حتى الآن: 3 آلاف قتيل، 3 ملايين نازح ولاجئ. 70 بالمائة من المستشفيات خارج الخدمة، 3 ملايين شخص مهددين بالجوع.
ويقول برنامج الأغذية العالمي إن 40 بالمائة من السودانيين سيعانون من الجوع بسبب هذه الحرب، وهو أكبر معدل تسجله البلاد على الإطلاق. وربما هو الأعلى منذ (مجاعة سنة ستة) التي أكل فيها الناس جلود الحيوانات كما يزعم قلم المخابرات البريطانية، سليطين باشا، صاحب كتاب (السيف والنار).
هربنا من الخرطوم مخلفين ورائنا الحرب الدائرة بين الحليفين الأعداء، الجيش وقوات الدعم السريع. وتركنا ورائنا آلاف من الأسر غير المحصية داخل الأحياء. تركنا تلك الأسر تنتظر آملة، ومشرئبة لتوقف القتال وعودة التيار الكهربائي المقطوع وسرسرة المياه المنعدمة وسريان الإغاثات الكثيرة المعلن عن وصولها بالأرقام، لكن لا شيء من هذا سيأتي قبل أن يأتي الموت مصحوبا برذائل البشر قبل فضائلهم.
هربنا قاصدين (شندي)، شمال الخرطوم، لنتمكن من الحركة في شكل علامة استفهام (؟) ولتعيدنا نهاية هذه العلامة إلى القرى والمدن الواقعة إلى الجنوب من العاصمة؛ لأنه كان من المتعذر علينا عبور النيل الأبيض إلى الخرطوم والتوجه منها إلى جنوبها مباشرة، حيث ولايات الجزيرة والنيل الأبيض وسنار.
وحتى الآن تعد هذه المناطق الولائية آمنة وسخية نسبيا من حيث قدرتها على تقديم الخدمات للأسر الفارة من جحيم الحرب. فهاهنا؛ إذا لم يوجد الأهل والمعارف، فلن تنعدم مراكز الإيواء المهيأة في المدارس والأندية والبيوت القديمة المهجورة.
لقد خرقت الحرب العبثية المرذولة ماهو معتاد لدينا، واستحقت بذلك اسمها ووصفها، إذ جعلت عالي كل شيء هو أسفله؛ مثل أن تهرول شمالا لتصل إلى الجنوب، ومثل أن تنتظر الديمقراطية من مليشيا تعاقدية يملكها رجل واحد، ليس قبله ولا بعده، أو تنتظر (الكرامة الإنسانية) من رجل شهد الجميع على عدم صدقه ولا أخلاقيته.
بعد يوم واحد فقط من نصيحة بدر الدين المخيفة كنت أنا في خضم التجربة التي حذر منها. لقد وصل بدر الدين بصعوبة من شندي إلى مدينة الحصاحيصا، جنوب الخرطوم على الضفة الغربية لنهر النيل الأزرق. وكان عليّ أن أقطع الطريق الترابي الوعر نفسه لأصل إلى مدينة أبعد منها: المناقل الواقعة في امتداد مشروع الجزيرة.
كانت وسيلتي للرحلة حافلة عامة لنقل الركاب، صنعت في حدود سنوات التسعينيات. كانت الحافلة تقف مع أخريات في محطة للمواصلات جديدة نشأت سريعا بفعل الحرب لتربط شندي بولاية الجزيرة.
قبل هذا الطريق الصحراوي الموحش، لم تكن رحلتي الأولى سهلة ويسيرة حين غادرت من أم درمان إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل. اهتبلت هدنة ما معلنة بين القوتين المتحاربتين، وقد كانت هدنة هشة وواهية، شأنها شأن سابقاتها، لم تمنع تبادل النيران، ولا سهلت المرور الآمن لمن أراد المغادرة.
وطيلة شهور الحرب المنصرمة، لم يكن خرق الهدن بالأمر الشاذ، فقد كانت الاتفاقيات والتفاهمات بين الطرفين أشبه بثمرة فارغة لشجرة النشاط الديبلوماسي الذي ترعاه أميركا والسعودية ومنظمة الإيقاد.
وسط هذه الهشاشة ركبت الحافلة على عجل قاصدا شندي، المدينة الأقرب إلى أم درمان من جهة الشمال.. ركبت ودفعت ثلاثة أضعاف ثمن الأجرة المعتاد، لكن هذه الأضعاف لا قيمة لها عند رجل يطلب النجاة.
كانت الحلوق جافة تزدرد هواء الصحراء الساخن، ولا أحد من الركاب الذين امتلأت بهم الحافلة يرغب في التعليق على شيء! فقط العيون، كانت تتحرك متعبة داخل محاجرها، ذابلة، واجفة، دامعة، ساهمة وكسيرة.
أصوات الرصاص والإنفجارات بعيدة مرة وقريبة مرات.. كان كل شيء في تمام الوضوح. إنه الوضوح الذي تلهمه التجربة لا تجريدات العقل والخيال: هنا حرب تدور وسط الأحياء ويغذيها الاغتصاب والسلاح الفتاك القاتل. وهنا أناس يموتون بلا سبب مقنع، وربما تكون أحد الموتى وطعاما للكلاب الضالة في أي لحظة!
كان من المتوقع أن نصل إلى شندي بعد ساعتين، على أسوأ الفروض، بيد أننا وصلناها بعد ثماني ساعات بسببٍ من بطء الحافلة وتعدد الارتكازات العسكرية الممتدة لمسافات بعيدة خارج أم درمان. وكان أمر الارتكازات مفهوما طالما أن طريقنا يمر بمطقة عسكرية واسعة!
الطريق من أم درمان إلى شندي تتخلله القرى الفقيرة التي تبتعد قليلا عن مجرى نهر النيل بالضفة الغربية. بيوت هذه القرى قديمة وباهتة، لكنها جميلة لمجرد أنها حميمة وآمنة ولم تصل إليها الحرب المباشرة.
كل شيء في القرى الواقعة غرب النيل كان يحافظ على قدمه الأزلي ويقاوم التحديث بجدارة، ولا يستجيب للتغييرات إلا ببطء، فقط المساجد؛ كانت دوما هي الشيء الجديد اللافت. كانت المساجد أجدّ من البيوت وأكثر فخامة! قال الرجل السبعيني الذي استضاف حافلتنا لدقائق شربنا فيها الماء إن الحرب منعتهم من تسويق الخضار واللبن في أم ردمان والخرطوم. وهذا السبب وحده يكفي للعن الحرب وإيقافها، ناهيك عن القتل والموت وحرق المصانع.
ومع ذلك، كانت رحلاتي أخف وطأة من رحلات الآخرين الذين اختاروا الفرار من الخرطوم إلى مدن وقرى أقاليم دارفور وكردفان.
أمنا في شندي واسترحنا، ثم بدأت رحلتنا مرة أخرى من طريق ترابي يقع إلى الشرق خارج المدينة، وكان علينا أن نتجه شرقا مع انعطافة كبيرة تجنبنا امتدادات عمليات الخرطوم العسكرية وتوصلنا إلى مدينة ود مدني في ولاية الجزيرة.
سرنا في البدء بمحاذاة أعمدة كهرباء كانت تطاول متحدية الصحراء، وكان سيرنا يقترب من تلك الأعمدة أو يبتعد عنها بما يمليه نتوء الشارع الترابي. ويتردد وسط الأهالي هناك إن هذه الأعمدة الكهربية التي تجاور سيرنا شُيدت بتعلميات من القيادي بتنظيم الإخوان المسلمين، نافع علي نافع، أيام سطوته في الحكم. شُيدت الأعمدة من أجل كهربة قرية أهله في هذه المنطقة المتاخمة لأبو دليق أواسط سهل البطانة.
قلت لسائق الحافلة، كم مقدار الزمن المتوقع حتى نصل؟ فقال: لا أعرف ذلك بعدد الساعات، لكن حين تنظر إلى هذه الوجوه ويمنعك الغبار اللاصق من تمييز أصحابها، سنكون وقتها فقط قد وصلنا.
هنا تنعدم القرى كلما ابتعدت عن مجرى نهر النيل وتوغلت في صحراء الحزام السوداني. لا وجود لمأوى من الشمس... لا مأوى سوى الظل الساخن في داخل الحافلة... لا شيء يغري العين... أشجار صغيرة بائسة، لا حية ولا ميتة... تسير السيارة لساعات دون أن يعترضها إنسان أو حيوان.
لم يكن لهذا الطريق الذي سأسلكه ذكرى في العصر الحديث إلا في ملاحم شعراء البطانة الصعاليك، أو نظم الشاعر إبراهيم العبادي الذي سرد شعرا واقعة مقتلة (طه البطحاني) و(ودكين الشكري) حول الحسناء (ريا بت أب كبس).
خرج طه البطحاني من أطراف البطانة إلى شندي وجارتها مدينة المتمة، خرج متأبطا ابنة عمه ريا التي تعلق بها الزعيم ود دكين خارقا تقاليد الغرام والزواج المرعية. وفي الطريق لحق ود دكين بطه، وجرت بينهما مبارزة بالسيوف انتهت بمقتل ود دكين العاشق المتطلب.
وربما في جزء من هذا الطريق الموحش أيضا سار المك نمر، الزعيم القبلي الغيور، وذلك في رحلته إلى الحبشة بعد أن قتل الغازي إسماعيل باشا، ابن محمد علي باشا المستعمر الأول للسودان.
وإذا كان شعراء البطانة وصعاليكها يقطعون هذه الفيافي كيفما اتفق لهم من الأيام والساعات، فإن الحافلة احتاجت إلى 13 ساعة من الجري المتواصل في منطقة صحراوية حتى تصل إلى وجهتها الأخيرة بسلام، وتتجنب ما أمكن مرمى امتدادات الحرب.
بعد كل هذا، هل جاز، على سبيل التطير، أن نربط هذا الطريق بالموت والاقتتال والأزمات؟ ربما ليس بعد.