02/08/2023

تجرأ لتعرف.. حي هو أم ميت؟

محمد عبدالعزيز


يقسم ثلاث مرات بأن قائد قوات الدعم السريع قد قتل، وأن الفيديو الذي ظهر فيه حميدتي، بعد شهور منذ اندلاع القتال مفبرك. ويورد معضدا روايته بمكالمة لزميل في العمل يدّعي أن قريبه يظهر في الفيديو تم إعلان وفاته قبل أسابيع طويلة من عرض الفيديو. ثم يردف بقصة أطباء تم استدعائهم على عجل في أبريل بعد أيام من القتال ليجزموا باستحالة بقائه على قيد الحياة، ليتم دفنه في شرق النيل. يمد هاتفه ليعرض مقطع صوتي لأشخاص يتحدثون باللهجة الليبية عن تعرض حميدتي لأصابة مميتة، قبل أن يحسم الحديث مستدلا بمقطع فيديو لشخص يدّعي أنه عم حميدتي يعلن موته.

في مثل هذه النقاشات لا تجدي الخبرة المهنية، ولا الحجج المنطقية، فنحن نعيش عصر ما بعد الحقيقة (post-truth) الذي يشهد طوفان رقمي أهوج، مما يخلق تشويشا مكثفا على عقل الفرد والعقل الجمعي على السواء، فيصعب عليه تمييز الحقيقة، لتحل الحقائق البديلة محل الحقائق الفعلية، وتصبح المشاعر ذات وزن أكبر من الأدلة.

ويرجع ذلك في الاساس للتغيير الكبير الذي حدث في نمط إنتاج واستهلاك الأخبار بعد أن بات لوسائط التواصل الإجتماعي الدور المركزي في صناعة الأخبار على حساب الصحف والراديو والتلفاز.

الدماغ البشري مرن ويمكن تشكيله من خلال مجموعة من الإجراءات التي ترتبط بالوسائط الرقمية، والمُتلقِّي حين كان يعتمد على التواصل الشفوي كوسيط، كان مختلفاً تماماً بصفاته العقلية عن اليوم، كذلك بيئته وطريقة تكيُّفه. فالوسائط القديمة يختلف حال جماهيرها عن الآن، وغالباً ما كان التجانس بينها حِسِّياً، عكس عصر ما بعد التكنولوجيا الحديثة، إذ يحدث التجانس افتراضياً، ما يترك المتلقي في الواقع بحالة عزلة وحيرة فيما إذا كان ما يجربه صادقاً أم أنه يعيش في الأوهام، وما إذا كان ما يقرأه صحيحاً أم أنه يعطي الثقة لجهة تقدم له معلومة مضللة.

وهو ما تحدثت عنه عالمة الأعصاب سوزان غرين فيلد، حين وصفت أنَّ عقولنا تتأقلم بشكل حسِّي، ويعاد ترتيب خلاياها بشكلٍ جديدٍ، فيضمر بعضها، ويتطور آخر، بحسب ما تحتاجه الوسائط من حواس وقدرات لدى الإنسان.

ومن هنا ظهر مفهوم ما بعد الحقيقة والمقصود به السياقات التي تكون خلالها الحقائق أقلَّ تأثيراً في توجهات الجمهور من الادعاءات غير الدقيقة التي تركز على المعتقدات والانحيازات الشخصية. بمعنى آخر، تصبح العاطفة ومشاعر الأفراد الفيصل في الحكم على المعلومات، وليس مجريات الواقع فعلياً.

وبدأ انتشار مفهوم (Post-Truth) بعد أن قام قاموس أوكسفورد عام 2016، باختيار المصطلح ككلمة العام، وهو تقليد سنوي يختار فيه القاموس الكلمة الأكثر تأثيراً والأكثر رواجا في التداول العام.

كما نشر أوكسفورد دلالة المصطلح بالقول إنها الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في صياغة الرأي العام مقارنة بالاحتكام إلى العواطف والقناعات الشخصية.

ويرجع المصطلح في الأساس إلى كتاب رالف كيس الصادر عام 2004 بعنوان عصر ما بعد الحقيقة: التضليل والخداع في الحياة الراهنة، قاصداً تماهي الحدود الفاصلة بين الحقيقة والكذب والخيال، وهيمنة النسبية والغموض على التفاعلات السياسية.

هذه الحالة قابلة للقياس ويمكن ملاحظتها تجريبيا (في فترة تاريخية مُحددة) وتدقق في حالة القلق العامة بخصوص الحقيقة وشرعية روايتها علنا، وخير مثال لذلك الأوضاع الحالية في السودان.

على كل يمكن القول أن الحقيقة وجدت لنبحث عنها لا أن نتلقاها من مصادر لا نعرفها، وهنا يمكن أن نستلهم فلسفة عصر التنوير التي رفعت مقولة تجرّأ لتعرف المستلهمة من الفلسفة اليونانية، وهو ما يستلزم الاستعداد الذهني والعاطفي للبحث عن الحقيقة مهما كانت قسوتها وتعارضها مع رغباتنا.

لذلك فإن التحلي بمبدأ الشك والمقدرة على التحليل والتفكير النقدي أثناء تلقي المعلومات والحقائق المعروضة في البيئة الرقمية، وعدم تصديق ما يعرض إلا بعد غربلته ومقارنته بمصادر أخرى مع التحلي ببعض المعرفة التقنية، بات أكثر من ضرورة في عصر ما بعد الحقيقة.

معرض الصور