التشكيلي عبدالله محمد الطيب: تركتُ لوحاتي في الخرطوم عهدة عند الشيطان

حاوره الأصمعي باشري

قُلتُ للفنان التشكيلي عبدالله محمد الطيب (أبسفّة)، بدون أي مقدمات: أرغبُ في إجراء حوارٍ معك. حوار مباشر حول التشكيل والحرب، وغير معدٍّ له سلفا.

رد في الحال بالقول لكّن الموضوع عويص ومشتبك ومعقد جداً، هذه الحرب لا علاقه لها بأيِّ شيء إنساني. إنّها ضد الحياة في كآفة أشكال تحققها و...

قاطعته طبعا أعرف ذلك، وأعرف أيضاً حالة النزوح التي يعيشها الإنسان العادي، ناهيك عن الفنان، وكم من الوقت يحتاجه في التكيف مع واقع جديد، مكانا، وعلاقات، وخصوصية أيضا، وقد يكون الوقت غير مناسب للحديث او للحوار؟

رد بالقول فعلاً، واقعٌ سخيف جداً، والأتفه أنه يبدو بلا نهاية. فما الذي سيحدث حين تتوقف الحرب؟ وهل ستكون الخرطوم مدينةً صالحةً للسكن ببنياتها التحتية المُدمرة؟ وهل أصلاً كانت بها بنيات تحتية يعول عليها؟

قاطعت استرساله في الأسئلة، وكأنه يريد هو محاورتي: كـ تشكيلي ولاحقاً سأتحدث معك أيضا ككاتب، عندما غادرت الي مدينة القضارف نازحاً. ماذا تركت خلفك، أيُّ خسارة مُنيت بها؟

أجاب بحسرة ٍوبعد لحظة تأمل: تركت الكثير. تركت لوحات بمختلف الخامات؛ أنجزتها منذ التسعينات من القرن الماضي، وما قبل ذلك،  تركتها موزعة بين الصحافة، والكلاكلة والخرطوم 2 بسبب صعوبة حملها، وسوء تقديري؛ إذ لم أتصور أن تتمدد الحرب هكذا بلانهاية. تركتها كلها في عهدة الشيطان.

ويضيف أبسفّة :تحزنني محاولة تذكر الأعمال الحديثة التي لم اتمكن من تصويرها.

تحدث أبسفّة عن الخرطوم قبل الحرب، وكيف أنها كانت بلا ملامح بصرية. اجتهد التشكيلون كثيراً، في تغييرها، لكنني بادرته بالسؤال: الآن أصبحت غير لائقة حتى للسكن كما ذكرت. فايّ فضاءٍ جديد يمكن أن يخلقه التشكيلي في ظل هذه الظروف المعقدة، وهو بلا مأوى او أدوات؟ وكيف تفكر انت في ذلك، في مكان نزوحك؟

أجاب بالقول إنها ورطة حقيقية. هذا التشرد، حيث لا مأوى، ولا أدوات، مثل كيس بلاستيك، تكبد عناء حمل اغراض، لا تعنيه في شيء، ولم يُكافأ سوى بالريح تتقاذفه حين استنفذ أغراضه، (تشيله وتحطه) كيفما إتفق. فقُبيل هذه الحرب الكارثية اجهدت نفسي كثيراً في تدبير مرسمٍ يلم شتاتي، وقبل أن أهنأ به ألقت بي الريح إلى مدينة مدني، ثم القضارف ولا أدري ما الذي تخبئه لي. من يدري مزاج الريح؟

يواصل في حديثه: كما ترى. ففي شرطي الرّاهن يصعب إتخاذ قرارٍ محدد، فهنالك بعض المبادرات لدعم المبدعين السُّودانيين في محنتهم الرّاهنة، حيث تواصلت مع بعضها، وما زلت انتظر. أرسم أحيانا بخامات بسيطة، ورخيصة استطعت توفيرها في مكان إقامتي الحالية.

سألته أيضا كـ (كاتب)، حول تجربة ثرة: صدر لك عن دار سيبويه كتاب الرّسم على الهامش. كأنما أردت محاولة لكتابة سيرة ذاتية، تقاطعت مع سير أخرى. هل انت راض عن هذه التجربة، وهل هنالك محاولة أخرى لكتابة ما؟

يقول نافيا الرسم على الهامش لم تكن محاولة لكتابة سيرة ذاتية. لا طاقة لي حقاً لهذا الجهد الجبار فالرسم يستهلك من وقتي، وطاقتي الكثير، وما تبقى تهدره أزمات العيش وعاداتنا الإجتماعية المترهلة، والتي لا فكاك منها. وربما تجد فيها شذرات من السيرة الذاتية التي وردت في الكتاب، وقد جاءت كشهادة على بعض الأحداث وفي سياق تداخل وإشتباك الخاص بالعام.

يمكن القول في مجملها، هي محاولة لتسليط بعض الضوء على العتمة التي يعمل فيها التشكيلي في السودان. وأعتقد أنها كانت موفقة، لحد ما، في تركيز الإضاءة على بعض المسائل، بينما شابتها بعض العجلة والإستعجال، في جوانب أخرى. لهذا رغبت ان يكتب بعض معاصريَّ ما ذكرت، شهاداتهم من مواقع مختلفة بالضرورة للرؤية. وللحقيقة أوجه متعددة تختلف بالطبع بإختلاف زوايا النظر.

تحدث أيضاً عن ظروف وحالة الكتابة، ويقول أكتب أحيانا مقالات حول بعض المسائل، كتلك التي تلحُّ عليّ في الشئون التشكيلية، والثقافية بوجه عام، فأنشر البعض واتجاهل أخري.

ويمضي التشكيلي عبدالله محمد الطيب في حديثه، أما تلك التي تستفزني بحيث يكون تجاهلها مستحيلا. أذكر أنّ حدثا من هذه الشاكلة أيقظني مرغماً من النوم، وكانت الكهرباء مقطوعة، كما يحدث عادة. وفي ظلمة الغرفة عثرت بعد عناء على ورقة وقلم، وشرعت أكتب دون أن أتمكن من رؤية ما أكتبه. لكن لا يهم فقد أفرغت نفسي وعدت لاواصل نومي.

في الصباح، كما توقعت؛ وجدت بعض الكلمات تتزاحم في نفس السطر، فلم يكن عسيرا فضّ إشتباكها. ونشر المقال يواجه أيضاً بعض الصعوبات بسبب روح القطيع، والشللية التي تسمم واقعنا الثقافي، الإجتماعي والسياسي. تلك قصة أخرى، إلاّ أنني أستطعت أخيراً نشره.

يضيف ما يوسم كل هذه الكتابات هو النفس القصير، بعكس ما حدث في الرسم على الهامش، والتي أغرتني بكتابة شبيهة، أكثر حميمية، شرعت فيها إلاّ أنَّها ما تزال تُراوح مكانها. فالكتابة غير الرسم، ويذّكرني هذا بـ هنري ميللر الروائي والرّسام أيضاً إذ يقول ما معناه: (إنّ في بيته الملاك يرسم، بينما الشيطان يكتب).

الحوار مع التشكيلي عبدالله محمد الطيب (أبسفّة)، لاينتهي. فكل إجابة ترد على لسانه يمنحها بطريقته الساحرة والساخرة، واللاذعة أحيانا طاقة لسؤال جديد، وهي ميزة التشكيلي والكاتب المفكر.

فعبدالله محمد الطيب، أبسفّة، كما يناديه الأصدقاء، هو فنان تشكيلي ومصمم. تخرج في كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بالخرطوم في عام 1975. وعمل في مجالات التصميم والرسم والتلوين، جزء منها في عددٍ من الصحف والمجلات السودانية ومطبوعات الأطفال. كما عمل في حقل التعليم معلماً للفنون داخل وخارج السودان.

نال الميدالية الفضية لمسابقة نوما لرسومات كتب الأطفال، طوكيو 1978. وأقام عددا من المعارض الفردية، كما ساهم في العديد من المعارض الجماعية داخل وخارج السودان.

لعبد الله التشكيلي منتوج غزير ومتنوّع ومتحول باستمرار سواءً على محور التلوين بألوان الزيت والأكريليك أو على محور الرسم بالأبيض والأسود في المطبوعات. من أميز أعماله الأخيرة بالأبيض والأسود مجموعة الرسومات التي نشرتها له دار النشر الفرنسية قراندير في كتاب للأطفال بعنوان الشيء صدر في فرنسا وحاز إعجاب الجمهور الفرنسي والنقاد كما صدر له كتاب الرسم على الهامش وهو رئيس جماعة عمل الثقافية في السودان.