نحبها حتى وهي في خرابها الأخير
الزين عثمان
استجاب القدر لدعوة الشاعر محمد طه القدال (١٩٥١- يوليو ٢٠١٢١).
شهد القدال ثورة ديسمبر السودانية وحزم حقائب مغادراً، مستبقاً بموته حدوث الخراب، تحيطه المخاوف من أن يشهد يوم وديرا.
مات القدال قبل أن يسكن الخراب الخرطوم، وهو الذي غنى للسلام ورفض الحرب والضرب والنهب، حين دمرت الحرب الحرث والنسل في دارفور وجنوب كردفان.
رأينا صور الموت، ورددنا العبارات هذه البلاد نحبها حتى في خرابها الأخير حين دكت السيول البيوت وحملت في طريقها حياة الناس ومتاعهم. رددنا نفس العبارة حين اشتعلت الحرب في الخرطوم.
غادرها أهلها وبقيت مجرد ثكنات للجنود وأسلحتهم، وسكنى للقطط. لم نجد عبارة نقولها غير هذه البلاد تخصنا بجياعها، وبصمتها المكسور في لين الفراغ تخصنا وبرضو نحن نحب هذه البلاد حتى وإن كانت خراباً.
حين وصل الخراب إلى الخرطوم التي سكنها بوم الحرب الخراب، لم نجد ما نردده غير وهذه البلاد نحبها وفي البال أن كل البلاد تقليد سخيف لأصل واحد هو السودان.
في عز الحرب يطرحون عليك السؤال: بتحبها؟ فيرد النبض، وأقطع اليد التي تمتد إليها بسوء. في سودان حربهم يمكنك أن تشاهد ملايين المشاهد وقد غلفها أصحابها بالمحبة.
يخرج أحدهم على تطبيق (تيك توك) ليقول: أنا السودان ده بحبه شديد. أنا خارجه ولا أفكر في شيء غير أن ما أحصل عليه هنا. أريد أن أعود به لإكمال مشاريعي هناك فلا دار للعاشق يسكنها غير السودان. يقول ذلك وهو يجاهد أن لا تطفر الدمعة من عينه.
وسط دموعها تقول سودانية فرضت عليها الحرب مغادرة بلادها في رحلة نزوح تتمنى أن تنتهي: نحنا من شدة الشوق بكينا وتكمل: مغادرة السودان اضطرارا أخبرتنا كم نحبه. ورتنا أن الحياة بعيداً عن ضجيجه وفوضاه ليست حياة. وحرفياً، نحن نحب هذه الأنثى أم درمان، ونموت عشقاً في الخرطوم. بنريد الكلاكلة. وكل الأوطان منفى بعيداً عن الحاج يوسف. وتختم: أسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن يبعد حبيب عن حبيبه.
تقول سيدة غادرت مكانها نحو مكان أكثر أماناً وبعيداً عن حرب الخرطوم: نحنا ما عندنا خيار غير نحب البلد وكل تفاصيلها. نحب بيوتنا ودخول أولادنا علينا. نحب مشاوير الصباح نحو الأسواق، ومشاوير منتصف النهار لمعاودة الجيران واحتساء القهوة. نحبها في المساءات وما نزال في ذات حبنا لها ونحن في تمام علمنا. إن الخراب حينتهي ويبقى السودان لأهله وبأهله.
يقول شاب: حين كنا نغني نحبها حتى وهي في خرابها الأخير، كنا نظن أن الأمر هو مجرد محاولة لتسلية أنفسنا وللاستمرار في المحبة، قبل أن نكتشف أنها كانت حقيقية، وللحد البعيد.
ما كان الخراب الذي طال السوق العربي ليجعلنا ننسى الأماكن هناك، وتفاصيل الحياة. حطموا المباني في بحري، لكنها ما تزال هي المؤسسة المعاني، ولا تزال بحري سر الهوى. لا حرب يمكنها أن تنجح في جعلنا نكره العزيزة أم درمان، أو شرق النيل، أو أي حتة من السودان مترامي الأطراف وعميق جذور المحبة. سيفشلون في كل محاولتهم لجعلنا نكرهها، وسيرد عليهم ذات النبض: نحن البلاد أكثر.. نحبها حتى وإن كانت خرابا.
في نيرتتي، وفي زمان غير الزمان، حين كانت السلمية ديدن الثورة، أقام الناس اعتصامهم وسط البنادق، لم تفلح سنوات الحرب المتطاولة في جعلهم ينسون أن هذه الأرض لهم.
عبروا عن محبتهم براية كبيرة للسودان، يومها. لم يكتبوا فيها نحبها رغم الخراب، لكن كل شيء كان يؤكد على هذه المحبة للبلاد الوطن.
ويعيدون عليك السؤال: لماذا تحبها رغم الخراب؟ لماذا تحبها في وقت الخراب؟ رد عليهم سؤالهم بسؤال آخر: ولماذا تحوّلون عمارها إلى خراب؟ لماذا تحوّلون سلامها إلى موت؟
وأكمل: أعلم ألا أجابة لديكم. وواثق أن من يشعلون حربا ويعرفونها بأنها عبثية، وينشرون الكراهية وسط الناس، لن يفقهوا معنى أن تحب! لن يستوعبوا أن هذا الخراب سينتهي وتبقى المحبة.
لكن سأجيبك: نحبها في خرابها، لعلمنا أنه لن يكون آخر أمرها. نحبها في حالتها الراهنة تلك لأن بالمحبة سترتقي بنا وبها. المكان الذي يشبهنا، نحبها منذ الأمس؛ حيث لم يكن من خراب!
نحبها الآن ونحن نحمل معاول هدم الخراب، عشان نبنيها من أول وجديد! نحبها الآن ونحن في كامل يقيننا أن ما تفعلوها بها سيكون هو الخراب الأخير، وإن غداً سياتي مثلما غنى محجوبها الشريف: وشعبا تب ترب حيقوم.. وحتنوّر شوارع الخرطوم.
هل عرفتم لماذا نحبها حتى وهي في خرابها الأخير؟