وردة بيضاء للفنَّان عبد الحكيم عامر مرحوم
السِّر السيد
الكتابة عن الكاتب والمخرج والممثِّل المسرحيِّ السودانيِّ عبدالحكيم عامر، تُشعرك وكأنَّ غيمة ما تُحوِّم فوقك أو كأنَّك تمشي بين الظلِّ والحَرُور، ذلك لأنَّ عبدالحكيم دوماً بين الهدير الممزوج بالهدوء والهدوء الممزوج بالهدير، هكذا هو منذ أن عرفته فى مطلع تسعينيَّات القرن الماضي في أروقة قصر الشباب أو المعهد العالي للموسيقى والمسرح، حيث كان عضواً في جماعة السديم المسرحيَّة، والتي كنت أنا بدوري عضواً مؤسِّساً فيها.
كان يأتينا (كسيف من نبيذ، كان يمضي كنهايات صلاة) كما قال محمود درويش. كان يتوفٍّر على صوت جميل، قويِّ النَّبرات، رافعته احتفاءه باللغة العربية الفصحى وجماليَّاتها، فقد كتب الكثير من نصوصه؛ بل معظمها بالفصحى، كما أنَّه كثيراً ما شوهد وهو يُلقي الشعر وكأنَّه يسمع نداءً بعيداً.. يحتفي بالكتابة أيَّما احتفاء؛ فهو شاعر وكاتب نصوص مسرحية وإذاعية وكاتب مقالات نقديَّة؛ فقد نشرت له الصُّحفُ الكثيرَ من المقالات، نذكر منها مقالته:(المسرح السوداني والتيارات الفكرية) التي نشرتها جريدة الميدان في أبريل 2021. وفي مجال الدراسات والبحوث صدر له كتاب (في معرفة النص الدِّرامي) عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر.
من مواليد العام 1965، وتخرَّج في قسم التَّمثيل والإخراج في العام 1994، ويعمل حاليَّاً في المسرح القومي السوداني، ويشغل منصب رئيس الفرقة القومية للتمثيل. له تجارب كبيرة في التمثيل في قصر الشَّباب والأطفال، وفي جماعة السديم، وفي الفرقة القومية للتمثيل بمسرحيَّات يصعب حصرها في هذه المقالة الاحتفائية؛ ولكن لا بأس من ذكر بعضها: مسرحيَّة (مأساة يرول) ومسرحيَّة (أغنية الدم) ومسرحيَّة (الناس الرِكبو الطرورة) ومسرحيَّة (إشارة مرور).
وفي الإخراج نذكر له: مسرحيَّة (المواطن س) ومسرحيَّة (مونودراما الرَّاقصة).. أما في التٍّأليف فقد كتب للمسرح نصوص: المواطن س والأعمى والخال ومقهى البنات يقدم مناديل لأجل عطيل وديدمونة وأبوذكرى الجواب فاضي ومليان وياغو الآخر وحبوبة الضل الفسيح وحكايات ما بعد التمام والعائد على وقع الجيتار، وهو النَّصُّ الوحيد المنشور له، فقد نشرته (دائرة الثقافة والإعلام..حكومة الشارقة..دولة الامارات المتحدة ضمن كتاب نصوص سودانية فى العام 2010).
من وجهة نظري أنَّ النَّصَّ المسرحيَّ عند عبدالحكيم عامر يُشكِّل علامة فارقة في النَّصِّ المسرحيِّ في الفترة من منتصف تسعينيٍّات القرن الماضى وإلى الآن؛ وذلك لما يكتنزه من ثراء لغوي وشاعريَّة وقضايا إنسانيَّة دقيقة. ومن هنا أرى ضرورة أن يتوقٍّف بعض النُّقَّاد على هذه التجربة المختلفة والغنِّيِّة في النصِّ المسرحيِّ السوداني.
لعلَّ خير ختام لهذه المقالة الاحتفائية، هو استرجاع ما كنت قد كتبتُه عن مسرحيَّة العائد على وقع الجيتار عند صدروها، فقد كتبت:
الأب-: ... إلٍّا أنَّني وفي لحظات التَّعب العنيف والعذاب تومض في عتمة روحي صورتُك وصورة البيت والبلاد التي نحن منها..
عارف:- أنت لا تتصوَّر يا أبي مقدار ما نفرح بعودتك وبعد طول غياب.. عادت بك المسرَّة.. مسرَّة لم نألفها يا أبي من قبل...
هذه المسرحية والمكوَّنة من خمس شخصيات، هي: الأب وومض وعارف والأم وإحدى الصديقات- ابتدعت بدلاً من التقسيمات المعروفة في النص المسرحي كالمشاهد أو اللَّوحات، وضع عنوان لكلِّ حالة أو مرحلة من مراحل تطوُّر النَّص. فكان العنوان الأوَّل: وقت العودة والعنوان الثَّاني: وقت في اللَّيل، والعنوان الثٍّالث: وقت الاحتفال، والعنوان الرَّابع: وقت عند النَّهر. وبما أنٍّ هذا النصَّ وكما أشرنا من قبل، يُزواج بين الشِّعر والمسرح، كما تمنحه هذه العناوين بُعداً جماليَّاً اضافيَّاً، وفي نفس الوقت تفرض أمكنة تمنح الحوار سبباً إضافيَّاً لتدفقه، كما تمنح المشهد بُعداً سينمائيَّاً بحيث يُخيَّل إليك أنَّ هذا المشهد يمكن تجسيده سينمائيَّاً، ومن ثمَّ نقله إلى خشبة المسرح.
هذه المسرحيَّة بتقنياتها المتعدِّدة في التَّأليف وبتنوُّع أساليبها، طرحت موضوعاً قلَّما يطرح في مسرحنا العربي أو أدبنا العربي، وهو موضوع الاحتفاء بالأب. فنحن عادة ما نحتفي بالأم ونكتفي بالتعبير عن بعد عن حبِّنا للأب.. ومن هنا، أستطيع القول إنَّ هذه المسرحيَّة حاولت أن تقول إنَّ البيت لا يكتمل دون وجود الأب، وإنَّ عدم اكتمال البيت في معنى من معانيه، قد يعني عدم اكتمال الوطن. لذلك جاء الأب في هذا النص بلا اسم محدد، ليكون المقصود مطلق أب وليس والد عارف وومض. وممَّا تجدر الإشارة إليه أيضاً في هذه المسرحية، هو اختلاف الحوارات من عنوان لآخر، وكذلك اختلاف حوارات الأب والأم عن حوارات البنت والولد، على الرغم من أنَّها جميعاً تؤسِّس لطقس الاحتفال بالأب.
أقول إن هذه الوردة البيضاء التى أهديها إلى صاحب (النِّيَّة البيضاء) والقلب الأبيض عبدالحكيم عامر الذي لا أعرف أين هو الآن وما الذي حدث له.
لا تعدو أن تكون سوى خاطرة احتفائية حوَّمت حولي كغيمة، وأنا بين الظل والحَرور. ولأنَّها جاءت والحرب لا تزال تقتل الحياة وتدمِّر الذاكرة، فهي بالضرورة ناقصة، فقد قطعت الحرب كلَّ تواصل وباعدت بيننا وبين كلِّ مرجع ومصدر. فليسامحنا عبدالحكيم وأنتم وأنتنَّ عن كل نقص وتجاوز.