مسامرة حول ادعاءات الحروب الوطنية
محمد فاروق سلمان
في كل بلاد العالم أتت الديمقراطية كنتيجة لانفاذ حكم القانون والالتزام بالعدالة وليس العكس. بمعنى ان تطور الانظمة السياسية وانماط السلطة في التجربة البشرية لم ينظر ابدا للديمقراطية خارج سياق كونها ممارسة قانونية لاحقة لتواضع الناس اولا على احكام قانونية متعددة من بينها احتكار الدولة للعنف الشرعي وصيانة الحقوق والحريات وفق القانون الاعلى او الدستور.
فالديمقراطية التي تتيح حكم الاغلبية سياسيا لا تعطي هذه الاغلبية حق صياغة القانون وفق مزاجها، وخارج سياق السوابق والتجارب التي جعلت العدالة ممكنة، بينما ترك وضع القوانين لتراضي الناس، اصبح الالزام به من واجبات الدولة، والتي يجب ان تلزم نفسها اولا بحكمه، كما لا تخضع كثير من التشريعات والقوانين لفضول الجماهير العريضة؛ منذ ان برزت سلطة العلوم والمعرفة كاساس للقوانين التي تحكم جوانب متعددة في حياة البشر، فلا تخضع احكام مهنة الطبيب او المهندس مثالا، لغير حكم اقرانه في حال طلبت هذه الاحكام او وجبت مقاضاته حتى.
منطق حكم الاغلبية نفسه والذي يضع السلطة بيد نخبة ما، في اي مجتمع لا تشكل الا اقلية تمثل حتى هذه الاغلبية تمثيلا فقط وفق انحياز متبادل بينهما؛ تحكمه القوانين ايضا، ولكن الاهم ان المباديء التي تتيح استقلال السلطات يجعل الرقابة ومحاسبة السلطة السياسية امرا ممكنا وواقيا من انحرافها وفشلها وتهديدها للاستقرار، وبشكل يعزز من مبدأ التداول السلمي للسلطة سواء بالتفويض او العزل.
لا يجب النظر لفشل أي سلطة مفوضة وفق نظام مدني ديمقراطي، كفشل لهذا النظام. ويجب ان يتوقف تهديد المنظومات السياسية لنظامنا السياسي، كما يجب تحرير الوصول لاجماع حول النظام السياسي من افق هذه المنظومات القاصرة والأغلبيات المؤقتة نحو اجتماع دايم بين الجميع لا يحكم على المستقبل من منطق القصور هذا، لكن من خلال الوعي به أولاً وترك الفرصة دائماً للاجيال القادمة لتحقيق مزيد من الجدارة والاستحقاق لتحقيق رفاهها، بدلاً من تهديدها كسبيل وحيد لهدايتها!
ما يهم أن الوصول لنظام سياسي يصون الحقوق والحريات هو مناط صراعنا السياسي والاجتماعي، وإذا كان لنا في تاريخنا عبراً، فإن آباء استقلالنا الأول، وأمهاته إن وجدن، لم يطلعوا بمهام التأسيس وإن كان مدخلهم للسلطة قد حاز إجماع تأسيسي من خلف إجتماع الامة على نيل استقلالها الوطني. وتفويضهم كان على أساس سلطة المعرفة والعلوم التي حازوها، لا يقدح كثيراً في هذا كون مؤسسات التعليم هذه كانت من نفحات المستعمر إلا بالقدح في أفق هؤلاء المتعلمين ووعيهم بواجبات التحرر الوطني وأهدافه. وهو ما كان جلياً وفق أداء نخبتنا الوطنية وقتها وتحولها من الإجماع حول واجبات التأسيس وفق مشروع الاستقلال نحو الإختلاف حول السلطة وفق مشاريع سياسية لم يحن أوانها إلا من خلف باب طموح الأفراد وليس آمال الأمة.
هذا الفصل من الاحتراب الآن هو محصلة الإنطلاقة الخاطئة منذ أكثر من نصف قرن، وإذ لا يجوز أن نطعن في رغبة الكثيرين من الآباء الأولين في بسط حكم القانون وتعزيز مسألة التداول السلمي للسلطة، إلا أن الأفق الذي جعلوه لهذه الرغبات كان قاصراً ومهدداً لكلا حكم القانون والتداول السلمي للسلطة. لتشهد تجربتنا في الحكم الوطني عقود من الاضطراب والاحتراب لا يمكن حتى مقارنته بسنوات النضال ضد المستعمر الأجنبي. وتصبح عقود حكمنا الوطني في اأغلبها ملمحاً من متلازمة الاستعمار الوطني الذي قام على الهيمنة والاختلال بأكثر مما قدر عليه الاحتلال الأجنبي في سنوات حكمه.
لا تشكل الحرب الآن حلقة استثنائية في هذا الصراع إلا بقدرتنا على جعلها الحرب الوطنية النهائية والأخيرة، والعلامة الفارقة في تاريخنا، مع كثرة الفرص لهذه العلامات الفارقة في هذا التاريخ، ووفق الحروب الاهلية فيه. ينتهي عندها دور مؤسسات الدولة، (وفي مقدمتها جيشنا الوطني)، في تعزيز نمط الهيمنة والاختلال الذي رعته طبقتنا السياسية ونال من هذه المؤسسات وحيدتها ومهنيتها. وجعل من مؤسسات الأمن والدفاع العسكرية أكبر مهدد لنظامنا السياسي وأمننا، لينقلب السحر على الساحر في هذه الحرب التي تشتعل من قبل القوات الصديقة لأجهزة الأمن والدفاع، وفق عقيدة عسكرية لم تكن وطنية، أو تليق بجيش وطني طوال سنوات حربه التي فرضت عليه داخل بلاده، من خلف تحول قادة هذا الجيش أيضا لطبقة سياسية لها طموحها في السلطة، طموح دامي ثمنه كان جنود هذا الجيش قبل المواطنين العزل.
لا تحظى هذه الحرب بمباركة الجميع مهما اجتهدت أصوات هنا وهناك للتهليل لها، أو ارتفعت حناجر لمباركتها. اأو صورتها عقول على قطيعة مع التاريخ كصيرورة تاريخية. فقد قطعت هذه الحرب الطريق أمام أكثر ثورة سلمية ملهمة في التاريخ الحديث للعالم، وأمام اكثر نظام اإرهابي شمولي هدد هذا العالم. ولا تشكل هذه الحرب وخلاف الاتهامات التي يتم إطلاقها إما لإعطائها مشروعية أو لتعزيز انقسامنا الوطني، الا تركة اخيرة لنظام الانقاذ في أبعادها الداخلية والخارجية. وقد كان من الممكن تفاديها لو أن لثورة السودانيات والسودانيين قيادة اأكثر رشداً وإيماناً بسلمية هذه الثورة، أو داخل الاسلاميين ونظامهم الذي سقط قيادة أكثر حكمة وأقل مغالطة للتاريخ وحكمه.
أما وقد انطلقت هذه الحرب من نقص كلا الرشد والحكمة، فليس أمام سيناريوهات تطورها غير خيارات محدودة، وفرص اقل: فإما أن نخضع للفرص التي تتيحها الحرب وحدها وهذا رهين بقدرة أي من طرفيها على حسمها. وليس من خلال توازن القوى الحالي ولكن وفق قدرة أي منهم لتحقيق فارق نوعي قد يقود لاعتماد الجيش قوى صديقة أخرى وتاكيد هشاشة احتكار الدولة للعنف مرة أخرى، وهو خيار إلى الآن واضح أنه متاح للطرفين، وبنفس قدرة الجيش على تجييش وخلق قوات رديفة، من الواضح أن قوات الدعم السريع تعتمد استراتيجية قديمة في الحرب: الغنم، (السلب)، وهو ما سيتيح خلق تناقضات أكبر داخلها مستقبلا، وانتهاكات اكثر الان!
ولا يخلو خيار الحرب وحدها من احتمالات تدخل دولي أو إقليمي لصالح أي من طرفيها: الجيش وفق مصالح أطراف إقليمية في استقرار السودان، أو الدعم السريع نفسه من خلال صيغة قد تتجاوز حتى حلفاءه الإقليميين، كلاعب أساسي في صراع دولي أكبر من الإقليم الذي يمتد شرقاً فقط، ومن خلال دول عظمى كروسيا، قد يغري التنافس معها أطراف أخرى لعرض خدماتها حتى تحول ضد إنهاء الحرب وضمان إنهاك السودان وتفككه، أو هوانه، حتى يخرج من قدرة عرض خدماته العسكرية مجدداً على نسق أيام البشير الأخيرة، أو وفق تراجع الطلب علي هذه الخدمات وفق خيارات الحلول السياسية الممكنة الآن في أكثر من جبهة شاركت فيها قواته، وهي خيارات للتدويل من الأفضل إسقاطها بإسقاط خيار الحرب نفسه، وإعادة تقديم السودان كداعم للاستقرار الإقليمي والسلم العالمي.
لا زلت أرى من أسباب سلمية الثورة السودانية وجدان جمعي ضد الحرب ووعي بها بأكثر من التهديد والتخويف منها، وبحكم تجربة طويلة داخل المجتمعات السودانية، خبرت الحرب ودفعت ثمنها دفعات، من بينها إعادة تشكيل جغرافيته وهذه الهشاشة في صيغة احتكار الدولة للعنف، وابتذال الإرادة الوطنية وتعثر التحول المدني الديمقراطي. وقد تكون الحروب الوطنية فصل، وإن بدا غير ضروري، في اكمال شروط الوعي بالتحول السياسي والاجتماعي الكبير الذي يفرضه الانحلال السياسي، لكنها تظل، أي الحروب، من فواتير هذا الانحلال السياسي نفسه، وتكاليفه الباهظة. ولكن ومن خلال الوعي بعدم ضرورة هذا الفصل يمكن أن تكون الحروب الوطنية لحظة فارقة في ميلاد الأمم والشعوب من خلال رفضها فقط، وتشكيل موقف وطني أصيل من الحرب. قادر على فرض شروطه لإنفاذ حكم القانون والخروج من اختلالات اجتماعنا السياسي والاقتصادي والتنموي، وليس من خلال الخضوع لشروط الحرب والمقامرة مجدداً بأسس الدولة وأهداف الثورة في الحرية والسلام والعدالة وإبقاء الباب مشرعاً أمام تهديد حقنا في الحياة والوجود الأفضل.