رحمي محمد سليمان راهب الصحافة السودانية
صديق محيسي
رحمي سليمان راهب الصحافة السودانية كما اطلق عليه الزميل الصحفى المخضرم يوسف الشنبلى عاش فقيرا ومات فقيرا. كان الفقر في معتقده هو فقر العقل والروح وليس فقرالجيب. كان رقيق العود اشبه بشجرة عجفاء لايغشاها المطر. له نظارة سميكة تظلل عينان في لون الشفق الاحمر. حمرة من الكد والعناء وشقاء العيش ولكنهما تريان الحياة صفاء مجلل بالضياء.
في السوق العربي في الطابق الأول كانت صحيفة الأخبار وكان رحمي سليمان. جئنا لزيارته والتعرف عليه. الشاعر محمد عبد الحي وشريف مطر، وسعيد احمد خير وكاتب هذه السطور.
كان ذلك في بداية ستينات القرن الماضي. عبد الحي في اولي سنواته الجامعية وسعيد طالب في يوغسلافيا وانا قادم من مدني للالتحاق بجامعة القاهرة، وشريف مطر طالب فى كلية الفنون الجميلة، نحمل في جيوبنا قصائد شعرية للنشر ننوي عرضها علي مسئول صفحة الأدب الشاعر كبير المكانة والجثة منير صالح عبد القادر.
التقانا رحمي مرحبا بنا فهو يطالع تأتأتنا الشعرية في صحيفته الإسبوعية. كانت الأخبار صحيفة المثقفين او قل هي صحيفة الطبقة البرجوازية، يكتب فيها مبدعون، كجراي مصطفي سند وصلاح احمد ابراهيم وعبد الرحيم ابو ذكري وعلي عبد القيوم وابو امنه حامد وسيد احمد الحاردلو.
من اول وهلة اصر رحمي عليّ ان نتناول معه طعام الغداء لم نصدق ذلك. هل نحن في حضرة هذا الراهب الصحفي الكبير؟ حملنا معه بسيارته القديمة حتي الديم حيث كان هو ووالدته وحيدان بعد رحيل الأب.
حكي لنا سيرته ومسيرته بأنه ولد بالخرطوم 1929 والتحق بالكلية القبطية وتخرج عام 1946م. قال ان والده توفي فجأة بلا سابق مقدمات، وكان أعظم مايكون فتوة وشبابا وإقبالا علي الحياة. وبدلا من ان يذهب الي فرنسا ذهب الي القضائية ليعيّن كاتبا في سلكها.
في عام 1955م تقدم رحمي بطلب للادارة البريطانية فصدق له بإصدار صحيفة جديدة هي الأخبار. وفي غمرة الحركة الوطنية اغلقت الأخبار اكثر من مرة، ومَثُل صاحبها امام المحاكم جزاء لنشره اخبارا تطعن في الادارة البريطانية. كذلك لم تنج الأخبار حتي في عهد الحكم الوطني من الإغلاق والغرامات.
استمرت الأخبار في الصدور المتقطع بفعل المشاكل المالية حتي قام انقلاب مايو 96 حيث جري تأميم الصحافة فلم ينل رحمي شيئا من التعويضات سوي ترخيص الجريدة. فهو لم يكن يملك مطبعة ولا مكاتب. وفي فوضي الوضع الصحفي بعد التأميم وجد رحمي نفسه خارج المعركة ولم يذكره احد فأختار الترجمة سبيلا لكسب العيش فعمل مع تلميذه في الصحافة محمد حسن مهدي في مكتب خاص للاعلانات والنشر. وللتاريخ فأن مهدي كان يمد له يد المساعدة حتي بعد ان ترك العمل.
وبعد تشرد ومعاناة تم اختيار رحمي نائبا لرئيس تحرير صحيفة الأيام وذلك في عام 1970وظل في هذه الوظيفة حتي قيام الثورة الشعبية التي اطاحت حكم النميري.
قال عنه الصحفى المخضرم الصديق يوسف الشنبلي (عاش فقيراً معدماً ولكنه كان عفيفاً لا يسأل الناس الحافا بالرغم من انه امتلك ناصية القلم منذ زمان وكان يمكن ان يستأجر مداده لحياة رطبة. واستعاض عن ذلك بنزعة ارستقراطية لا تتعدى الكلمات الفخمة الباشوية ولكنه لم يكن ابداً من اصحاب الياقات البيضاء بالرغم من ارتياده صالونات العاصمة وفنادقها ومنتدياتها ومنازل الزعماء السياسيين وحفلات الدبلوماسيين، حيث لم يكن سهلا اغفال رحمي او تخطي اسمه في المناسبات، وذلك للاستئناس بافكاره واستقراء آرائه في الاحداث السياسية وغيرها من وتائر الحياة.
لا ينتمي لاي تيار سياسي، وكان يسبح دائماً في الوسط ومن هنا يجد نفسه قريباً من «الازهرست» وبحسبانه ايضاً أحد أبناء الخرطوم كان مشدودا الى يحيى الفضلي مرشح الدائرة. واذا كان جثمان الفضلي خرج من «بيت الاوقاف» فان جثمان «رحمي» غادر منزلا بالايجار نصفه من الطين انهار عندما ضربت الامطار المدمرة العاصمة عام 1988. وعندما جاء صديقه المرحوم صالح عرابي مهرولا من منزله المهدد بالغرق في تلك الليلة انفجرا رغم درامية الموقف في ضحكة مجلجلة بشوشة وهما يرددان «كالمستجير من الرمضاء بالنار» ورغم الصواعق الحارقة والرعد اصرّا على تناول فنجانين من القهوة في ربوة لم تصلها السيول خارج المنزل.
تعاونا في عملين صحفيين بعد الانتفاضة مجلة «الدستور» وصحيفة «التلغراف». عندما دخل الى مكتبي في ظهيرة احد الايام كان معي اربعة شبان انجليز يرتدون «افرولات» جاءوا مع مستر لاد مدير مكتب الدستور في لندن لتركيب مطبعة الخرطوم. قلت للشبان هذا استاذنا رحمي سليمان الذي قام باجراء حوار صحفي مثير مع «ريتا هيوارث» عندما قضت ليلة في الفندق الكبير بالخرطوم وهي في طريقها الى «لندن» بعد ان صورت احد افلامها في غابات افريقيا. وان العديد من صحف العالم اعادت نشر الحوار الفلتة، لانه لم يكن من السهل ان يصل اي صحافي الى هذه الممثلة البارعة التي تحيط السرية بكل تنقلاتها، ويضرب حراسها عليها سياجا قويا. لم يبد الشبان اية دهشة كما توقعت، ويتساءلوا بينهم من هي «ريتا هيوارث» هذه؟ قلت لهم هذه الممثلة التي تعرض لها حاليا ثلاثة افلام في مصر من واقع صحيفة «اخبار اليوم» التي امامي واثنان في الخرطوم، وتعدّ واحدة من «ماسات» التاج البريطاني. هنا اطلق «رحمي» ضحكته الباشوية قائلا (ديل ناس كرتون ساكت انتو فاكرين اي زول عيونو خضر فهمان. بتاع الورنيش عندنا مثقف اكثر منهم).