تلك (الأيام)
صديق محيسى
في عام 1966 التحقت رسميا بصحيفة الايام بعد أن رشحني الصحفي الكبير الراحل، محمد ميرغني سيد احمد مدير مكتب وكالة رويتر في الخرطوم.
كان لمحمد ميرغني مكتبا في بناية أبو العلا القديمة يدير منه العمل، ويستقبل فيه كبار السياسيين. وكان من بين الذين يزورونه بإنتظام عبد الخالق محجوب. سكرتير الحزب الشيوعي، ومحمد احمد محجوب رئيس الوزراء، والشريف حسين الهندي الزعيم الأتحادى والعديد من الشخصيات السياسية ونجوم المجتمع، وذلك لتسّقط الأخبار. وكنت أسكن في غرفة بالعمارة نفسها، وأزوره من وقت لآخر وكان يساعدني في دفع إيجار الغرفة عندما تتعثر احوالي.
دخلت دار الأيام وفي ظني أنني سأعمل في الصفحة الأدبية لممارسة كتابة الشعر والقصة القصيرة والخاطرة. ولكن ما أن تسلمت عملي حتى شرعت في كتابة مقالة لإثبات قدرتي على الكتابة. ولكن رئيس التحرير محجوب محمد صالح ضحك ورد إليّ مقالتي، وطلب مني أن أذهب غدا إلى صحيفة الرأي العام لأتصل بصحفي فيها يدعي توفيق صالح جاويش، كان مسئولا عن دوائر الشرطة والمحاكم.
أوصاه محجوب بي أن أبدأ معه أولى خطواتي تجاه هذا النوع من الصحافة. وهو مدخل كان يتعين على أي راغب في المهنة أن يلج منه. وكان أن بدأت السير في طريق طويل بدأ بالدوائر الشرطية والقضائية. وانتهيت بمحرر برلماني وسياسي ذخيرته معين من التجارب العملية التي قربتني من مفهوم الصحافة الحقيقي.
في (الأيام)، وكنت أصغرهم سنا، وجدت أمامي صحافيون شباباً ينضحون حيوية ونضارة. نجوم في سماء الكلمة يوم كان للكلمة تجلة واحترام. مصطفي أمين سكرتير التحرير ذلك الصحافي الذي لا يشق له غبار والحارس الليلي للدار في الخرطوم البحرية، عاشق الورق الساخن وأول من يستقبل طفلة الأيام وهي تخرج من رحم المطبعة.
وعبد المجيد الصاوي ذلك الشاب وسيم الطلعة منفرج الاسارير دائم الابتسامة انيق الهندام، خفيف المشية، سريع البديهة يقود سيارته من ماركة الفيات الايطالية يوم كانت السيارات لا يقودها إلا من هم من ارستقراطية الحبر والقلم. والوليد ابراهيم ذلك النحاسي اللون شاربه الخفيف يظلل ابتسامته الخجولة وصوته الهامس، مسئولا عن صفحة الأدب. يكتب القصة القصيرة، ويترجم لعثمان سبمين وتشينوا أتشيبي، وولي سوينكا، ويعشق شرحبيل احمد. فهو في الهوية سوداني افريقي يتحدث اللغة العربية.
فؤاد عباس ذلك الباب العالي الذي خرجت منه أخبار السودان إلى العالم العربي، مراسلا لصحف دار الصياد أكبر المؤسسات الصحفية في بيروت. ومبارك الرفيع مراجع اللغة فى الصحيفة وهو أديب من عاشقى عبد الله الطيب.
وعمر عبد التام ذي العمامة الشبيهة بالرسوم الفارسية القديمة لم يشهد أحد ما تحتها حتى رحل عن دنيانا في ثمانينات القرن الماضي. جلس عبد التام على عرش الرياضة في السودان مديرا لمملكتها في (الأيام)، ناشرا عدالته الصحفية بين الأندية حتى صار إماما للصدق والكلمة الأمينة. يقول عنه بشير محمد سعيد، (حتى غادرنا عبد التام لم تشهد (الايام) قضية واحدة أمام المحاكم ولم نشهد نفيا واحدا لأي خبر رياضي كان عمر ورائه).
كنا في (الأيام)، في أسفل عمارة ابو العلا القديمة شرق الخرطوم، حزمة من الأقلام المشحوذة بالطموح. استاذنا الجليل عبد الله رجب ملك الصحافة الشجاعة، يحمل الصحف الانجليزية تحت إبطه، يجلس على ترجمتها حتى يدخل المساء.
عبد الله رجب باني صرح (الصراحة) الذي أدار من برجها معارك الاستقلال حتى خرج الاستعمار من السودان. ذلك البرج كان اعمدته جنود من الكتاب اليساريون، هم عبد الرحمن الوسيلة، وحسن الطاهر زروق وجعفر السوري، ومحمد عبد الرحمن شيبون، ومحمد الحسن احمد، وسيد احمد نقد الله، ومحمد سعيد معروف ومحجوب محمد عبد الرحمن (الزعيم ).
أرسل في طلبه بشير محمد سعيد ليعمل في (الايام) وفاء له ولمسيرته الطويلة بعد تداعي صرح (الصراحة)، وصراع طويل مع ديون المطابع حتى اشترتها وزارة اعلام عبود لتحوّلها الي (الصراحة الجديدة) يديرها محمود ابو العزائم الجاهز الباسط يده دائما لمصافحة كل نظام شمولى.
في (الايام) كان بيننا عز الدين عثمان عبقري الكاريكاتور يبحث عن شخوصه الفنية بين فئات اجتماعية متنافرة. سكاري يتقيؤون الشيري أمام أبواب البارات، وآخرون يعتمدون الجدران في اخر الليل. وكلاء وزارات مشهود لهم بالتسهيلات يجوبون في الغسق ازقة أحياء المتعة، ورجال عسس يسوقون أمامهم بأحصنتهم المدربة، متشاجرون ممزقة دامية ملابسهم إلى مراكز الشرطة، محامون يرقصون في حفلات صاخبة قوامها مثليون قادمون من القضارف وكسلا وبورتسودان ومدن السودان المختلفة، وأفندية لصوص رخص تجارية وضباط جيش يجلبون الحشيش من الجنوب، وسياسيون بسحناتهم المتجهمة يزأرون في البرلمان صباحا ويذوبون رقة في التابوهات الحمراء ليلا .
وجدت في (الأيام) أيضآ الدكتور ابراهيم عمر التني الذي كان مسئولا عن صفحة الإقتصاد، وهاجر الي الامارات حيث عمل خبيرا في الدائرة الإقتصادية بإمارة الشارقة ومسئولا عن الصفحة الاقتصادية في صحيفة البيان الإماراتية. وعبد الباسط مصطفي الذي التحق كمترجم فوري بمنظمة الوحدة الأفريقية وبعد ذلك جاءنا الشاعر الراحل عثمان خالد الذي أحدث ضجة بقصيدته إلى مسافرة، التي غناها حمد الريح.
كان عثمان شاعرا متمردا على كل شيء. أحب الحياة وعبّ من ينبوعها عبا، فكتب الشعر برومانسية حالمة، ومات بداء السرطان بعد ان صارعه طويلا فانتصرت ارادة العدم علي ارادة الحياة.
تبع عثمان خالد، عبد الله جلاب الذي عمل سكرتيرا لتحريرمجلة (الحياة) التي كان يرأس تحريرها اسماعيل حاج موسي. كتب جلاب الشعر والنقد، وكان من المؤسسين لتنظيم ابادماك، بل هو الذى اختار هذا الأسم الادبي.
وفي مايو عمل محررا ادبيا في الراي العام المؤممة، ثم رئيسا لتحرير مجلة الاذاعة والتلفزيون ولحقا إعلاميا في بريطانيا، ثم محاضرا بجامعة اريزونا حاليا.