عصام الحاج.. لن نضحك للصورة مرةً أخرى
محمد عبد الماجد
قال سبحانه وتعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) [ الأنعام: 17].
نحمده ونشكره على كل حال، ونتوب إليه، نسأل الله تعالى أن يمنحنا الصبر إذا قدر علينا البلاء، وأن يثبتنا بالرضاء والحمد، فهو الذي لا يحمد على مكروه سواه.. إنّ الحمد لله رب العالمين، ولا حول ولا قوة إلّا بالله.. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها.
(الصورة) ارتبطت عندنا بالزهور والفرح والأعراس واللحظات السعيدة، كنا نحمل (باقة الزهور) عندما نتصوّر ونحن في كامل الأناقة!! هذا تقليدٌ كان راسخاً في الأستديوهات.. ربما لهذا غنّى زيدان إبراهيم (بين الزهور متصوّر)، وكنا لا نعرف (الابتسامة) إلّا أمام (الكاميرا)، نتجهّم في وجه الجميع عدا (المصور)، الذي ننسى دائماً معهم آلامنا وأحزاننا، وقد قيل إنّ السوداني يبتسم أمام شيئين، الكاميرا وشُبّاك الصّرف، لتتبدّل (الصورة) الآن فتصبح على ارتباط وثيق بالدانة والذخيرة والشظايا والوجع!!
عبد الله يونس وعباس عزت ويحي شالكا وجاهوري وابراهيم حامد ومحمد دفع الله ومحمد اسماعيل وأبو بكر شرش وأشرف كامل وسعيد عباس ومبارك حتة ، وكولا وعصام الحاج وعلي جن وغيرهم من حملة الكاميرا، كنا نبتسم أمامهم وننسى أوجاعنا في حضرة كاميراتهم، فليس هنالك إنسانٌ عاقلٌ لا يضحك أمام الكاميرا. نعزي انفسنا وقبيلة المصورين قاطبة في فقدنا الجلل.
الصورة في حياتنا تمثل مرتكزاً مُهماً وتحوُّلاً فارقاً، نذكر ذلك منذ صورة الجنسية، وصورة امتحانات الشهادة السودانية، وصورة التقديم للجامعة، وصورة الجواز، وعندما تصل لهذه المرحلة فأنت تخطو خطوة كبيرة نحو المستقبل، إلى أن تصل إلى (صورة العرس) وهي النقطة الأهم في حياتك، أو (اللقطة) التي تنقلك إلى عش الزوجية.
كل هذه الصور لها قيمة، لهذا اكتسب المصور في حياتنا أهمية قصوى، وبقيت الصورة هي الوسيلة الوحيدة التي نحسن التعبير والتوثيق بها.
الصورة بين الأحباب لها قيمةٌ كبيرةٌ، وهي فاصلةٌ في تحديد العلاقة واستمرارها أو انتهائها، لهذا غنّى وردي (توعدنا وتبخل بالصورة) من كلمات الحلنقي، وغنّى عبد الله البعيو من كلمات حسن الزبير (صورتك الخائف عليها)، وغنّى عبد العظيم حركة (الصور العندي شيلها)...إلخ.
لذلك، نحن من الذين نحمل الكثير من الود والتقدير للزملاء المُصوِّرين، وندرك قيمة وأهمية ما يقومون به.
قبل أيْامٍ قليلة، فقد المُصوِّر (علي جن)، وهو أحد المنصات التصويرية الرائعة، زوجته في اشتباكات أم درمان، وتعرّض ابنه الوحيد لإصابة لحقت به وهم في منزلهم.
الأحد 20 أغسطس، فقدنا المُصوِّر عصام الحاج.. عصام الباوقة، الذي أُصيب بحسب الأخبار بدانة جَرّاء الاشتباكات في محيط المدرعات بالشجرة.
للفيتوري في هذا المقام جرحٌ لا يندمل، أهش به على غنم أحزاني واتوكأ به في مثل هذه الأوجاع، حيث يقول في هذا الموقف:
(عن أيّ بحار العالم تسألني يا محبوبي
عن حوت
قدماه من صخر
عيناه من ياقوت
عن سحب من نيران
وجزائر من مرجان
عن ميت يحمل جثّته
ويهرول حيث يموت
لا تعجب يا ياقوت
الأعظم من قدر الإنسان هو الإنسان) .
نعم إنّ الوضع الآن يمكن وصفه بهذا (عن ميت يحمل جثته ويهرول حيث يموت).
لقد حمل موتانا جثثهم.
والأعظم من قدر الانسان هو الانسان!!
الموسيقار سنهوري مات ودُفن أمام منزله، وهو فنان كان يمنح الناس الفرح والبهجة بأوتار كمانه الضاحك.
الطريق إلى مدخل منزل سنهوري أصبح يمر بقبره، فقد قُبر أمام باب منزله.
الطبيبة آلاء فوزي المرضي وعبد العزيز ابو شنب وحسن بركية وزوجة علي جن والمُصوِّر عصام الحاج والعشرات وربما الآلاف في دارفور والخرطوم ماتوا بإصابات تعرّضوا لها وهم في ديارهم.
ليتني أملك القُدرة والمعرفة لأكتب عن كل مَن رحل عنّا بهذه الطريقة.
هذا الموت الذي يحدث عن طريق (النيران الصديقة)، أي أنّ المصاب فيها غير مُستهدف وغير مقصود لذاته، مع ذلك تحصد (النيران الصديقة) كل هذا العدد من القتلى.
إبان حرب التحالف ضد العراق، كانت القوات الأمريكية قد أحدثت إصابات كبيرة بين جنود الجيش البريطاني، مع أنّ القوات الأمريكية كانت تستهدف الجيش العراقي، ما جعل صحيفة إنجليزية تُعلِّق مُتهكمةً، أمام تزايد كثافة (النيران الصديقة): لا ندري لماذا اختار بوش العراق ليُحارب فيه بريطانيا؟ وهؤلاء يُحاربون شعبهم.
عندما نكتب عن هؤلاء ونذكر بعض الأسماء، ونخص الزميل عصام الحاج، نحن نكتب عن ألف عصام، قُتلوا بنفس الطريقة في دارفور والخرطوم.. وكل أجزاء الوطن أضحت قابلة للموت بنفس الطريقة.
مَن مات بالنيران الصديقة لا بد للأقلام الصديقة أن تُكفِّر عن بعض الشئ لما فعلته النيران الصديقة في حق الشعب السوداني.
الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي ملأ الأرض عدلاً ونوراً، وحمل هم إن تعثرت بغلة في العراق، كان ينتظر قميصه حتى ينشف ليدرك صلاة الجمعة وهو خطيبها وهو أمير المؤمنين الذي هزّ عرش الفرس والروم وآل له ملكهما، وفتح الشام والعراق ومصر، وامتدت فتوحاته في ثلاث قارات.. يقول الرواة إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر يوم الجمعة، فجعل الناس ينتظرونه في المسجد حتى أبطأ عليهم، ثم خرج عليهم فصعد المنبر واعتذر من إبطائه، فإذا الذي أبطأ به قميصه قد غسل فانتطر أن يجف، ولم يكن عنده قميص غيره.
ماذا تريدون من هذه الدنيا التي جعلتموها لنا جحيماً؟
أليس بينكم رجل رشيد؟
هذا عمر الذي فرّق بين الحق والباطل ووافقه القرآن في أكثر من موقف حتى قال عنه سيد البشرية الذي أُرسل رحمةً للعالمين: ان الحق على لسان عمر وفي قلبه.
في الرحمة والرفق واللين والخوف على العباد واللطف بهم والعدل، أيضاً كان سيدنا عمر بن عبد العزيز رفيق الوطأة على الناس، سأله ابنه عبد الملك: لماذا لا تنفذ الأمور بعنف؟ قال عمر: لا تعجل يا بنّي، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة. واني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة فيدفعوه جملة.
إنه يخشى حتى من أن يحمل (الحق)، فما بالكم بمن حملوا علينا المدافع والدانات والمضادات والقذائف، ونهبوا البيوت والسيارات والإغاثات.
عمر بن عبد العزيز (الحق) لم يستعمل العنف فيه!! كان يستعمله برفق.
ورحمة الله تشملنا دائما بهذا العطف.
بربكم ماذا تقولوا في هذا الزمن الذي أصبحت (الدانات) والقذائف تصل للمواطن في بيته؟ وما هي مرافعتكم يوم تبلغ القلوب الحناجر ويفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه، ويقف العباد سواسية لا يكرم منهم أحد إلا بتقواه ليحاسب ولتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم ومدافعهم وأقلامهم بما كانوا يفعلونه في العباد.
الزميل الإعلامي عصام الحاج المُصوِّر (الإنسان) بكل ما تحمل الكلمة، فقدناه في اشتباكات الأحد بين الجيش والدعم السريع في الهجوم الذي شنته الأخيرة على المدرعات.
أظنه مات وهو يترقّب أن تنتهي هذه الحرب اللعينة.
لا أعرف من أين جاءت الجرأة لتلك الدانة لتصيب بدنه الطاهر، وهو الذي كان مثل الفراشات يعمل بخفة وسلام.
كنت أشاهده في المباريات قبل أن تظهر التقنية الحديثة التي جعلتهم يرسلون الصور الى الصحيفة من الملعب.. كنت أشاهده وهو مهمومٌ بالوصول إلى مقر الصحيفة لتسليم الصور وإسكانها قبل ذهاب الصحيفة للمطبعة.
زاملته في صحيفة قوون، كان يكتب الخبر ويُحرِّره ويلتقط الصور.
آخر عهدي به كان بإستاد الهلال في إحدى مباريات الهلال الودية في الموسم الماضي أمام سيمبا أو الأشانتي.. التقيت به في جناح الإعلاميين بمقصورة الهلال.. تحدث معي بلطفه الذي عُرف عنه، وحديثه الهامس، وابتسامته التي لا تفارق فاهه هو يتحدث.. كان دائماً مشغولاً بخدمة الغير حتى وهو يحمل كاميرته في المباريات أو أثناء ساعات عمله الرسمية.. نشط في العمل العام حتى أنساه ذلك في كثير من الوقت عمله الخاص.
يلبس مريلته، ويحمل كاميرته، ويُوزِّع ابتسامته، ويخدم في الآخرين.
حديثه الهادئ، وكلماته الدقيقة كان لنا فيها تداوٍ وسلوى.
لا أدري ماذا أكتب؟ وأنا بتلك الحيرة والتشتت، أراقب سماء الخرطوم فأراها في ليلة فقده تبكي سحبها كما الطفل الرضيع.
لقد امطرت الخرطوم حُزناً.. أمطرت دمعاً.
لبدر شاكر السياب متسعٌ آخرٌ:
(كم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع ثم اعتللنا، خوف أن نلام بالمطر…
مطر..
مطر...).
عن حرب لبنان كتبت مرة الأديبة غادة السمّان في إحدى مقالاتها:
(ومع ذلك فإننا نحاسب أنفسنا قبل النوم: هل انزلقت الكمامة عن فمنا؟ هل انتقدنا أحداً؟ هل قتلنا أحداً؟ هل نبسنا ببنت حق؟ صرنا ندهش كل صباح حين نستيقظ: أمازلنا أحياء؟ كيف لم نقتل في اليوم السابق؟نفتش في عمود الوفيات وندهش: أين اسمنا؟).
عصام الحاج هذا الشاب الذي كان يعشق هذا الوطن ويقدس ترابه، فقدناه في تلك الحرب اللعينة.
والله إنِّي مازلت أبطئ في كتابة هذا العمود وأتمهّل عسى ولعل أن يصدر تكذيب لخبر وفاة.. أحلم أن تكون وفاة عصام الحاج (شائعة) من بنات أفكار مواقع التواصل أو من خدع الحرب.
أعرف أن الموت حقٌ علينا ليس في ذلك شك ولكل أجل كتاب وإذا جاء أجل الله لا يؤخر.. لكن أتعشم في أن لا يكون أجل عصام الحاج قد جاء الآن.. فليكن جرحاً أو إصابة، لم نكتف بعد من إنسانية عصام ومن إبداعاته.. من طلّته البهية، ومن ونسته وحديثه الرائق.
لكن يبدو أنّ الأيام قد اكتملت، وأن الأجل قد جاء فرحل عصام الباوقة بتلك (الصورة) الحزينة.
أقدر أحزان الكثيرين الذين فقدوا أهلهم وأحبابهم في تلك الحروب التي تدور بيننا وتدخل بيوتنا.. وأدرك أننا شركاء في الحُزن.. وإنّ جراحنا غائرة وكبيرة وإنّ فقدنا عظيم في الخرطوم والجنينة ونيالا والفاشر وكادُقلي والفولة.
فقدنا واحدٌ ومصابنا جللٌ.
من الذين فقدناهم أيضاً في هذه الأيام، الرياضي الكبير والمؤسسة الاجتماعية مصطفى توفيق.. رجل المريخ الخارق وإداريه المحنك الذي كان يحكي المريخ ويمثله في شيءٍ، بما في ذلك أنفاسه التي يشهق بها ويزفر.
اللهم أرحم عبدك مصطفى توفيق وتقبّله قبولاً حسناً.
اللهم نسألك الشفاء والعافية لمعلمنا في الكرة العالمية الأستاذ مامون الطاهر.
كذلك نلفت حكومة ولاية الجزيرة والخيريين في ارض المحنة (مدني) بان المصور جاهوري طفركم مريضا.. اسعوا اليه وعيادوه فهو ريحانة بينكم.
اللهم تقبّل عصام الحاج وكل الذين فقدناهم في تلك الحرب اللعينة بالرحمة والمغفرة.
اللهم احفظ السودان وأهله، وارفع البلاء ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منّا وفينا.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين.