23/08/2023

الزمان صحيفة الدكاترة

صديق محيسى
في عام 1964 ونظام 17 نوفمبر يقترب من عاصفة ثورة اكتوبرالشعبية يمّمت من مدني شطر الخرطوم العاصمة للإلتحاق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم. وحينذاك كانت اولي خطواتي في بلاط صاحبة الجلالة الصحافة في جريدة الزمان اليومية لصاحبها الصحفي الكبير الراحل عبد العزيز حسن دسوقي.

كان عبد العزيز حسن دسوقى قد بدأ حياتة الصحفية فى جريدة صوت السودان، ثم مراسلا ومديرا لفرع وكالة انباء الشرق الأوسط المصرية بالخرطوم وهى التى كانت تمد الصحف بنشرة يومية لآخبار العالم فى عصر (التكرز).

كانت (الزمان) شراكة بين عبد العزيز حسن، والدكتوران محى الدين صابر، وعقيل احمد عقيل وثلاثتهم مع 23 يوليو ثورة يوليو المصرية، بل هم ناصريون يؤيدون قياد جمال عبد الناصر، وهم قبل كل ذلك كانوا من دعاة وحدة وادى النيل الشعار الذى كان يرفعه الأتحاديون المتحمسون للوحدة مع مصر وقد كانت معظم كتاباتهم تتبنى الخط السياسى المصرى.

اذن (الزمان) كانت بلغة اليوم جريدة القوميين العرب. كتابها الكبار مؤيدون بقوة للوحدة العربية وزعيمها جمال عبد الناصر وتبنت قضايا التحرر الوطني إستنادا الي ادبيات ثورة 23 يوليو في عصر المد القومي العربي، واستقطبت الزمان كتّاب مصريون من الأساتذة العاملون فى جامعة القاهرة فرع الخرطوم وجامعة الخرطوم.

كانت جريدة الزمان تقع في شارع السيد عبد الرحمن في من مبني من طابقين وهو مبني جميل بمقاييس ذلك الزمان. وبالقرب من الزمان فندق الحرية لمالك الفنادق مصطفي راشد (كيشو) وكذلك فندق على الكوباني.

في مدرسة (الزمان) قابلت كبار الكتاب ونجوم السياسة. تعرفت هناك وانا صبي يافع رقيق العود تفاجئه الدهشة علي كبار الكتاب ونجوم السياسة، الدكتور محي الدين صابر، والدكتور عقيل احمد عقيل، والسياسي والكاتب الكبير محمد امين حسين، والأديب الموسوعى محجوب عمر باشري المشرف علي صفحة الأدب، والقاص والمثقف الوجودي بشير الطيب الذي كان له عمود يومي بعنوان (اقول لكم).

وكما اشرت من قبل في مذكرات في الثقافة ان الراحل بشير الطيب ومعه كمال شانتير المحامي، كانا اول من ادخل المذهب الوجودي الي السودان. جاء بشير الطيب الي الخرطوم عام 1960 وعمل في التدريس والترجمة ومتعاونا مع جريدة الزمان حيث كان يكتب عامودا يوميا ادبيا فلسفيا تحت اسم (اقول لكم) متاثرا بالفلسفة الوجودية التي وجدت رواجا في العالم العربي. وكان اهم روادها الكاتبين انيس منصور، ومصطفي محمود الذي كتب مؤلفه المشهور (الله والإنسان) الذي انكر فيه وجود الله واثار ضجة كبرى يومذاك، وصودر الكتاب من المكتبات بعد ان منع الأزهر توزيعة. ومع ذلك لم يكفّر احدا مصطفي محمود الذي كان يري ان الفضيلة ليست الصلاة وانما هي في الطعام الجيد والكساء الجيد والمسكن الجيد والمدرسة والملعب وصالة الموسيقي.

في شراكة ادبية فلسفية مثّل بشير الطيب وكمال شانتير المحامي ثنائيا ثقافيا، روّج بشدة للمذهب الوجودي وكتب شانتيركثيرا عن قضية الحرية والإنسان وفلسفة الخير والشر، والفضيلة والرزيلة. واثارت كتابات شانتير جدلا في الوسط الثقافي شارك فيه بشير الطيب برؤيته الوجودية في ان ممارسة الفضيلة اسهل، بكثير من ممارسة الرذيلة. ويري ان الفضيلة لا تحتاج إلى ذكاء ولا إلى ثقافة، ولا إلى إلحاح، لأنها فلسفيا سهلة، طبيعية بعكس الخطيئة التي تحتاج إلى ذكاء وإدراك. وقال أنه لا توجد فضيلة مطلقة، ولا رذيلة مطلقة، فقط هناك فعل بشري يحتمل التقييمين ولكل منا، في فعله، ووجهة نظره الخاصة وعلة رأيه وسببه. فالفضيلة في لحظة قد تنقلب الى رذيلة، وفي لحظة أخرى الى فضيلة لأن الإنسان الذي يمارس الفعل محكوم عليه بالحرية وهو دوما في تعال وصيرورة لهذا يستحيل أن يظل فعل الموقف المعين فضيلة مطلقة لموقف آخر، وإنما يكون الفعل رذيلة لرذيلته في الموقف المعين فقط.

صادف بشير في (الزمان) وجود الأديب الموسوعي محجوب عمر باشري الذي كان مسئولا عن الصفحة الأدبية ونمت بيهنا علاقة فكرية قوية.

كان في (الزمان) ايضا كاتب العمود الساخر الأشهر الراحل مصطفي عابدين الخانجي بعنوان (الوجه الأخر من المسألة) ويوقع اسمه مصطفي. وخانجى كان يعمل مترجما فى السفارة اليوغسلافية.

في (الزمان) ايضا تعرفت علي الكاتب الراحل ابراهيم دقش الذي صار فيما بعد الناطق الرسمي بأسم منظمة الوحدة الإفريقية والكاتبة الصحفية نجمة المجتمع حينذاك بخيتة امين التي كانت تحررصفحة المرأة. احبها دقش وانتهت القصة بالزواج.

كان ابراهيم دقش الموظف بوزارة التربية يتواجد مساء كل يوم بالصحيفة يكتب عموده الإسبوعي (عابر سبيل) وشكّل مع محمود ابو العزائم مدير التحرير ثنائيا ظريفا طريفا يشيع البهجة في جو الجريدة المفعم برائحة الأحبار وابخرة الرصاص وصوت المطبعة.

وجاء عبد العزيزبمحمود ابو العزائم كمدير للتحرير فأستبدل رصانتها السياسية بمدرسة اخبار اليوم التي تعتمد الإثارة في إختيارها الأخبار. وكان ابو العزائم من اشد المعجبين بالأخوين مصطفي وعلي امين اصحاب صحيفة اخبار اليوم المصرية.

في (الزمان) ايضا كنا فريق التحرير ثلاثة اصدقاء محمد حسن مهدي، وعثمان الحويج مسؤولا عن صفحة الفنون والمسرح، وانا مسئول عن صفحة الأخبار العالمية، ومحمد حسن مهدي مسئولا عن صفحة التحقيقات والجريمة يجوس بأقدامه المتربة طوال النهار مراكز الشرطة في الخرطوم مستخدما الحافلات من والي الخرطوم جنوب وام درمان وبحري.

ومهدي ذا حس صحفي عال ولكنه وبعد سنوات طويلة قضاها في بلاط صاحبة الجلالة طلّق الإحتراف الصحفي في الصحف وفتح له مكتبا إعلاميا واعلانيا انيقا في عمارة ابو العلا القديمة اهتم فيه بعمل الدلائل التجارية والمطبوعات للشركات والحكومةعلي السواء. وبعد إنتفاضة ابريل 85 شرع في إصدار صحيفة بأسم (العصر) ولكن لصعوبات مالية صرف النظر عنها ومع كل ذلك لازمته روح الصحافة ولاتزال.

كان عثمان الحويج ببنيته الضعيفة ونظراته الحادة أحد اهم رواد النقد الفني والمسرحي في ذلك العصر(توفي بعد معاناة شديدة مع المرض عام 2018 بمستشفى النيل الأزرق بأم درمان وسط تجاهل كبير من المسؤولين والمهتمين بالثقافة والمسرح في السودان، في الوقت الذي فيه أسرته إبان فترة مرضه للوقوف معه بعد أن تفاقمت أزمته الصحية ولكن دون جدوى.

الجدير بالذكر أن الراحل عثمان الحويج قامت على يده نهضة المسرح القومي والتلفزيون فيما كتب عشرات الأعمال الفنية والأناشيد.

كانت جريدة الزمان في حالة عسر دائم فأنعكس ذلك شح في رواتبنا التي ننتزعها بالقطارة حين تتكرم الحكومة بدفع قيمة الإعلانات التي تتعلق بالعطاءات ونشرات المحاكم التي كانت تخاطب الهاربين من المتهمين في القضايا المختلفة.

معرض الصور