الديمقراطية الرقمية

المصدر: مركز هردو لدعم التعبير الرقمي

فـي عصـر مـا قبـل الإنترنـت، اعتـاد الأفـراد علـي التحـدث فـي أمـور السياسـة وتـدبير الشأن العام وحقوق الإنسان فـي الأمـاكن العامـة أو فـي النطـاق الأسـري أو مـع زمـلاء العمل. ومع حدوث طفرة فـي شـبكة الانترنـت، وتكنولوجيـا الإعـلام والاتصـال، خاصـة شبكات التواصل الاجتماعي من (فيسبوك-تـوتير ...)، والمواقـع الالكترونيـة الإخباريـة والتفاعليـــة والمـــدونات وغيرهـــا مـــن مظـــاهر التكنولوجيـــا الرقميـــة، أتـــيح للأفـــراد والجماعات فضاءات شاسعة ومساحات حرة للتداول والنقاش في كافة أمور الحيـاة وفــي مقــدمتها القضــايا السياســية، وبالتــالي إعطــاء الأقليــات فرصــة للتعبيــر عــن آرائهم السياسية والفكرية بحريـة مُطلقـة بعيـدا عـن ضـغوطات المجتمـع والنظـام السياسي الحاكم.

لا تتوقف ظاهرة الديمقراطية الرقمية عند ما هـو اجتمـاعي وسياسـي واقتصــادي وعقائدي وحسب، ولكنها تمتـد لتشـمل مـا هـو تكنولـوجي، مـن ثـم فهـي ظـاهرة يبحـث فيهــا علمــاء الاجتمــاع والسياســة ويشــاركهم علمــاء ثــورة التخــزين الرقمــي والمتخصصون في شـبكات المعلومـات وبنـاء المو اقـع علـي الإنترنـت، وغيـرهم مـن المتخصصـين في عالم التكنولوجيا والاتصالات.

مصطلح الرقمية الملحق بالتكنولوجيا، جاء من الطريقة التي يتم بهـا تخــزين أي بيانـــات أو معلومــات علــى الحاســبات بشــكل رقمــي، وهــو مــا يتــيح تخــزين كميــات هائلـة مـن المعلومـات، كمـا يتـيح تناقلهـا بسـرعة. تـزامن هـذا التطـور الهائـل فـي أدوات مختلفـة تخصصت في توليد المعلومات الرقمية وتداولها على نطـاق واسـع، وبأسـعار رخيصـة، وبسـهولة شـديدة، مـع وجـود اتجاهـات عالميـة عارمـة تلـح علـى ضرورة نشـر الديمقراطيـة وحقـوق الإنسـان واعتمـاد آلياتهـا فـي شـتى بقـاع الأرض، وعلى رأسها المشاركة وحرية الرأي والتعبير.

تلاقـى التطـور فـي ظـاهرة الديمقراطيـة الرقميـة، مـع التطـور العـالمي فـي حركـة الديمقراطيـة وحقـوق الإنسـان، فنجحـت البيئـة الرقميـة فـي تـوفير بنيـة أساســية متكاملة للديموقراطية، من خلال منظومة متكاملـة قـادرة علـى تـداول المعلومـات في شأن الممارسة الديموقراطية، والأوضاع السياسية بسهولة وبسرعة وتعرف الديمقراطية الرقمية علي أنها :
توظيـــف أدوات تكنولوجيـــا المعلومــــات والاتصــــالات الرقميـــة فـــي توليـــد وجمـــع وتصـنيف وتحليـل وتـداول كـل المعلومـات والبيانـات والمعـارف المتعلقـة بممارسـة قــيم الديمقراطيــة وآلياتهــا المختلفــة، بغــض النظــر عــن الديمقراطيــة وقالبهــا الفكري ومدى انتشارها وسلامة مقصدها وفاعليتها في تحقيق أهدافها.

إذًا فالديمقراطيــة الرقميــة لا تعتبــر نــوع مــن أنــواع الــديموقراطيات، لكنهــا فقــط وسيلة جديدة لممارسة الديمقراطية، وبهذا الأساس تلعـب التكنولوجيـا الرقميـة دور مهم في تغيير الممارسـات الديمقراطيـة وتسـتحدث أشـكالَا لـم تكـن موجـودة من قبل.

أي أن الديمقراطية الرقمية يتم من خلالها توظيف أدوات التكنولوجيا، إمـا بغـرض تجديد مضمون الممارسة الديمقراطية، أو توسيع مجـال الديمقراطيـة وعملهـا، أو حتــى إعــادة تشــكيل قواعــد اللعبــة الديمقراطيــة، إلا أنهــا لا تخلــق نــوع آخــر مــن الديموقراطية.

تراجع دور الأحزاب، ورقمنة السياسة

فــي إطــار نمــو الــدور الــذي باتــت تلعبــه وســائل التواصــل الاجتمــاعي، والمنظمــات الطوعية في استقطابها لاهتمامات الأفـراد والمجموعـات، وفـى التعبيـر عـن آرائهـم فــــي الشــــئون الخاصــــة والعامــــة دون قيــــود، لــــم تعــــد الأحــــزاب السياســــية هــــي المؤسسـات الوحيـدة التـي تعبـر عـن الاتجاهـات السياسـية، وتقـدم مصـالح الأفـراد والفئــات المختلفــة فــي المجتمــع، جــاء التطــور التقنــى واستقصــاءات الــرأى العــام المسـتمرة حـول القضـايا السياسـية والاجتماعيـة والثقافيـة، كبـديل عـن الخطابـات السياسية المعتادة للأحزاب.

أصبح الواقع الرقمي أداة هامة في كشف المخفي من المعلومـات، وحجـم الفسـاد، وأداة للضـــغط علـــي القـــادة والحكومـــات فـــي مجتمعـــات التســـلطية السياســـية ووسيلة لفضحهم، كذلك فضح رداءة المنتجات والخدمات التـي تقـدمها الشـركات والمؤسســات الرأســمالية الكبــري، وتعــد وثــائق و يكيلــيكس ووثــائق بنمــا أداة ستتطور كثيراً فيما بعد.

مـن هنـا نشـأ الصـراع بـين محـاولات الإخفـاء والتسـتر عـن الفسـاد وبـين البحـث عـن الشــفافية، وأصــبح مجــال هــذا الصــراع هــو الواقــع الافتراضــي لا الصــحف أو الإعــلام المرئي، فتحولت مواقع التفاعـل الاجتمـاعي إلـى سـاحات بـلا حـدود للنقـد والـتهكم والسخرية من السلطة والحكـام وتحـويلهم إلـى أفـراد عـاديين دون هيبـة السـلطة المعتاد عليها سابقاً.

أصـبحت الديمقراطيـة الرقميـة أكثـر تمثـيلا وتعبيـرا عـن آراء الأفـراد والجماعـات مـن الصـيغة الحزبيـة والنظـام البرلمـانى والرئاسـي وشـبه الرأسـي، وتراجـع دور الأحـزاب السياسية في تعبئة المصالح الاجتماعية والسياسية والتعبيـر عنهـا، وتحولـت إلـي أحزاب رقمية.

رقمنـة السياسـة هـى الظـاهرة التـي سـتتطور بسـرعة، وسـتنتج أشـكالا مـن رقمنـة التمثيـــــل السياســـــي والاجتمـــــاعي التعبيـــــر عـــــن مصـــــالح الأفـــــراد والجماعـــــات، وستنعكس الرقمنـة علـى أنمـاط الحيـاة الإنسـانية، والثقافـة السياسـية، والفـاعلين السياسيين، وجماعات الضغط التي تحولـت إلـي جماعـات ضـغط رقميـة. وفـي مصـر يوضــح موقــف الأحــزاب المصــرية مــوت السياســة وســطوة التســلطية السياســية، فأصبحت تتسم بالهشاشـة والضـعف وعـدم القـدرة علـى أداء الوظـائف السياسـية المنوط بها، فى تجميع المصالح الاقتصادية والاجتماعية لشريحة أو بعـض الشـرائح الاجتماعيـــة، وفـــى التعبيـــر السياســـي عنهـــا فـــي إطـــار مـــن التنـــافس السياســـي السلمي.

فبالنظر إلـي تـاريخ الأحـزاب يمكـن ملاحظـة الـدور الهامشـى للأحـزاب السياسـية فـى الحراك السياسي بسهولة، الذي تمت استعادته مع نشأة حركة كفاية، ثم 6 أبريـل، وبعـد ذلـك حركـة كلنـا خالـد سـعيد التـي تشـكلت علـى الواقـع الافتراضـي. فلـم تستطع الأحزاب السياسية قبل 25 يناير أن تلعب دورا بارزا فـي التمهيـد للانتفاضـة الثوريـة المصـرية، وشـارك بعضـها علـى اسـتحياء وفـى حـدود ضـعيفة فـي العمليـة الثوريـة، فجـاءت الثـورة ومـا تلاهـا مـن تطـورات سياسـية كمؤشـر علـى تراجـع الحيـاة الحزبية المصرية، وبـروز الديمقراطيـة الرقميـة، واتجـاه الأجيـال الجديـدة مـن الشـباب إلــي الفضــاء الإلكترونــي للتعبيــر عــن الــرأي، وممارســة الضــغط السياســي علــي السلطة في مصر.

يعبر كل ذلك عن ظهور نظام سياسـي افتراضـي جديـد يلعـب فيـه الإعـلام الجديـد دور مشـابه للـدور الـذي كانـت تقـوم بـه المؤسسـات الوسـيطة، فعـزز الإنترنـت مـن التواصــل مــا بــين عمليــة صــنع القــرار والــرأي العــام، وســاعد علــي بــروز ممارســة ديمقراطية جديدة وبآليات متوفرة لعدد كبير من الناس.

كمــا ســاعد فــي عمليــة زيــادة الــوعي بالمعلومــات السياســية والحريــات، وعــزز مــن الشــفافية التــي بــالطبع تســاهم فــي عمليــة صــنع القــرار، وزيــادة الــوعي بحقــوق الإنســان عالميــا، فأصــبحت القضــايا المحليــة تلقــي اهتمــام دولــي وتضــغط علــي مؤسسات سياسية حاكمة، وتنال من شرعية النظام وسمعته الدولية.