السودان.. لمحة عن التضليل الإعلامي الكثيف
يوسف حمد
مع اندلاع القتال في السودان، بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، كانت الأخبار والمعلومات المضللة وغير الموضوعية تجد حظها من الانتشار بموازاة القنابل والدانات، ونشأت حرب جديدة بين الطرفين ميدانها احتلال الفضاء العام إعلاميا.
ورغم أن ظاهرة احتلال الفضاء العمومي بالمعلومات والأخبار المضللة وغير الموضوعية ليست بالظاهرة الجديدة في السودان، إلا أن الصعوبات الجمة والمضايقات التي واجهت الصحفيين أثناء النزاع ساعدت على ذلك ومنعت عملية التحقق من المعلومات.
وأظهرت التقارير الدورية لنقابة الصحفيين السودانيين أثناء الحرب تعرض بعض الصحفيين للاعتقالات وخلو العاصمة الخرطوم من الصحفيين وتعطل عمل المؤسسات الصحفية، بما في ذلك مبنى الإذاعة والتلفزيون المحتل بواسطة قوات الدعم السريع.
ومع اندلاع الحرب في منتصف أبريل الماضي باتت الظروف مواتية لعودة نمط معروف من صناعة السيطرة الإعلامية ملؤها الدعاية والتضليل والانحياز غير الموضوعي.
ففي أعقاب النجاح الأولي للثورة في السودان وتشكيل حكومة الدكتور عبد الله حمدوك (2019) شهدت البلاد حالة من الركود والتراجع الاقتصادي، لكن مع ذلك ازدهرت صناعة من نوع آخر هي (صناعة الصحافة الإلكترونية)، برغم أنها صناعة غير مربحة في ظاهرها.
وباتت تظهر المواقع الإخبارية المميزة بإضافة كلمة (نيوز) الإنجليزية إلى اسمائها.
ولطالما نشأت الشكوك، طوال حكم عمر البشير والإخوان المسلمين، حول مصدر تمويل كثير من المؤسسات التي تظهر على السطح بمختلف القطاعات! ولا تزال الشكوك في محلها وبالقوة نفسها بخصوص قطاع الإعلام.
ورغم صعوبة جمع الأدلة على استخدام التمويل العام للاستيلاء على وسائل الإعلام وإدارتها، إلا أن التغطية التحريرية المنحازة والافتقار إلى شفافية التمويل تعطيان المصداقية الكافية للشكوك المتداولة.
خلال الأيام الحركية للثورة، وبينما كانت الشوارع معبأة بالرصاص وهتاف الناس السلميين المطالبين بإسقاط نظام عمر البشير، كانت المواقع الإخبارية الإلكترونية مجهولة المصدر والتمويل تتزاحم لصناعة الأثر الأكثر فتكا عبر الأخبار المضللة والزائفة. وضمن 40 موقعا إلكترونيا كانت تعمل حتى سنة 2020، كان 30 منها قد ظهرت إلى الوجود بعد الانتصار الأولي للثورة، مستفيدة من مناخ الحريات، ونشأت المواقع على الطريقة التي تنشأ عليها الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصا فيسبوك.
وكان الغرض من تلك المواقع هو تشويه صورة الحكومة الانتقالية وكل ما له صلة بأهداف الثورة السلمية والانتقال المدني الديمقراطي في البلاد.
وفي الواقع طوّر نظام الإخوان المسلمين (1989- 2019) خبرة في صناعة هذا النوع من المواقع والصفحات على فيسبوك، مثل موقع (المركز السوداني للخدمات الصحفية smc)، وغيره من المواقع المنحازة لنظام عمر البشير التي يديرها جهاز الأمن، فضلا عن الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعد الإطاحة بنظام عمر البشير، ساعد الوضع الهش للدولة وتقاطع المصالح بين الأطراف العسكرية والمدنية، والدولية، على أن تجد المواقع الإخبارية سوقا رائجا، ولم تخل محتوياتها الخبرية من أجندة بدت واضحة وأوحت بمن هم خلفها، وخدمت، بشكل واضح، أجنداتهم السياسية والاقتصادية.
ومنذ انقلاب 25 أكتوبر 2021، يبدو أن طرفي الانقلاب، الجيش وقوات الدعم السريع (يتقاتلان من أجل السلطة الآن)، ورثا طريقة عمل نظام الإخوان المسلمين في الإعلام، خصوصا في منصة فيسبوك المفضلة لفئات واسعة من السودانيين، وطوراها بتقنيات محمومة في حربهما الدائرة الآن.
ومن أجل كسب معركة الإعلام الدائرة بينهما استفادا من خبرات عالية وفرتها شركات عالمية تعمل في هذا المجال.
تمثل المنصات الرقمية ومؤسسات النشر الممولة في الخفاء أو مجهولة التمويل خطرا كبيرا على المجتمعات، إذ تتحكم نوعية الملكية في نوعية الرسالة المُنتجة، بينما تشكل هوية الممول هدف الرسالة ومضمونها وغايتها في إتاحة الخيار الملغوم للمتلقي، ولطالما شكلت الرسائل الإعلامية اتجاهات الناس في الحرب والسلم، وفي البيع والشراء، وحتى في تشكيل السلوك في التعاطي مع الأشياء في الحياة العادية.
وبالنسبة للصحفيين، لم تكن الشكوك كبيرة حول تمويل المؤسسات الصحفية، وكان كثيرون منهم على يقين بأن واحدة، على الأقل، من كل ثلاث مؤسسات خاصة ممولة بمال الدولة بطريقة مباشرة أو لولبية، لكن الظاهرة الأخطر التي بدأ الصحفيون في اكتشافها تتعلق بنشوء مؤسسات مجهولة التمويل، أو تمولها حكومات ومنظمات أجنبية.
وعلى سبيل المثال، حين نقبت (لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يوينو واسترداد الأموال) الحكومية، اكتشفت أن مجموعة من المؤسسات الصحفية التابعة للقطاع الخاص، كانت ممولة من الحكومة بطريقة خفية، وسُخّرت للدعاية وخدمة نظام الرئيس المخلوع عمر البشير.
وفيما بعد قالت وزارة الثقافة والإعلام في حكومة حمدوك إن العسكريين وتنظيم الإخوان المسلمين استأجرا شركات تعمل في المجال الرقمي لإغراق الفضاء العمومي برسائل ضد الحكومة المدنية والقوى السياسية المتطلعة للديمقراطية.
وحين يدور الجدال بين العاملين في مجال الصحافة أو مستهلكي الأخبار بشأن المواقع الإلكترونية والنشاط الصحفي لصفحات الفيسبوك، يدور الحديث عنها على ضوء فورة النشر التي ساعد عليها الإنترنت، وكيف أنها تقدم وجبات صحفية لا يعرف من يصنعها ويمولها، ويتعرض الناس قسرا لعناوينها الصارخة ومعلوماتها المضللة. ولا حاجة الآن لشرح أضرارها، خاصة في ظل الحرب.