مبدعون نازحون يشعلون الفضاء المدني ضد الحرب
شندي ـ الأصمعي باشري
عندما دخلت معسكر (مركز التنمية) بمدينة شندي، شمال الخرطوم ١٧٠ كيلو متر، لإيواء النازحين من جحيم حرب الخرطوم. وهو معسكر ضمن اكثر من خمسة معسكرات أخرى تتوزع داخل المدينة، وفي أريافها.
لفت نظري تجمع عدد من الشباب والأطفال من الجنسين في وسط ساحة المركز، وهم يحيون برنامجا ثقافيا متنوعا من المسرح والانشاد، والموسيقى. وتحدثت مع احدهم كان يبدو وكأنه المنظم الأول للحفل. وعرفني بأنه مهتم بتنظيم مثل هذه البرامج في منتدى بمدينة امبدة بالخرطوم.
وقال لي: فور وصولنا هنا كنازحين من ويلات الحرب، وجدت عددا كبيرا من الأطفال والنساء والشباب، الأمر الذي ساقني لتنظيم برامج ثقافية وترفيهية وتوعوية هدفها الأول امتصاص الصدمات النفسية لهؤلاء الأطفال، وممارسة حياتنا الطبيعية ضد ذاكرة الحرب.
ويبدو أن ذات البرامج والفعاليات قد انتظمت جميع مناطق النزوح في السودان، حيث فر عدد كبير من المبدعين والفنانين والكتاب لهذه المناطق، آثروا من خلال وجودهم؛ مواصلة اشغال الفضاء الثقافي المدني ضد الحرب و آثارها الكارثية، حيث نزح ما يقارب الـ ٣ ملايين سوداني من العاصمة الخرطوم. وتقول الأنباء الواردة من مدن النزوح، أن الموسيقار المعروف عثمان النو، والموسيقار عاصم الطيب اقاما يوم أمس الأول مثلا في مدينة القضارف أمسية حوارية غنائية حضرها جمع غفير.
وفي الدمازين، نظم المسرحي وليد الألفي ورشة لمنطقة صناعة العرض المسرحي، وشهدت مشاركة مبهرة بحسب مشاركين.
وفي مدينة كوستي في النيل الأبيض، اختتمت الدورة الثامنة، من مهرجان المسرح الحر، وسط حضور جماهيري كبير، تنوّعت من خلاله مشاركات عدد من النقاد والشعراء مثل الناقد صلاح النعمان والشاعر عبد الله الزين.
وفي مدني والحيصاحيصا نُظمت ورش عمل للأطفال في مجالات الرسم والتلوين والمسرح، وفي بورتسودان قُدمت تلاتة عروض من فرقة (الرصيف) وعطا شمس الدين ومحمد عثمان ورايحة محمد محمود وغيرهم من الممثلين ، كما قدم الموسيقار الصافي مهدي ندوة حول تجربة كورال معهد الموسيقى والمسرح في مقر اتحاد الأدباء بمدينة بورتسودان.
ووسط المعارك بمدينة الجريف غرب، بولاية الخرطوم، تم عمل مطبخ الحي التعاوني، مصحوباً بعروض مسرحية، للفنان جسور أبو القاسم، والفنانة فاطمة محمد الطيب، وهي مُخصصة لأطفال مراكز الإيواء. وفي القضارف أيضا يجري العمل على قدم وساق في منتدى شروق الثقافي لتنظيم فعاليات خاصة للعيد.
ووجه الكاتب والناقد راشد مصطفى بخيت من مقر نزوحه بمدينة القضارف، رسالة عبر صفحته في فيسبوك وهو يحتفي بكل هذا الزخم الفني والثقافي، للسياسيين والمجتمع المدني بأهمية التحرك والتقاط قفاز المبادرة، معتبراً بأنّ النشاط المتواصل في الفضاء الثقافي والمدني، هو الدرب الوحيد الذي يوقف هذه الحرب؛ وضد أصوات التجييش والملشنة.
من جانبه قال المسرحي عطا شمس الدين إنهم قدموا عروضاً لأكثر من ألفي طفلٍ وتلميذ، وأربعين ألف نازحٍ في مدينة بورتسودان. مضيفا (سيتواصل هذا البرنامج لمدة ثلاثة أسابيع متواصلة، باستخدام الفنون والمسرح في معالجة المشاكل النفسية المترتبة من جراء حرب الخرطوم، وبمشاركة عدد من المسرحيين والتشكليبن وعلماء النفس) مؤكداً أهمية تواصل مثل هذه البرامج ضد الراهن الكارثي بسبب الحرب.
ان نزوح عدد من الكتاب والشعراء والفنانين للداخل السوداني، ظاهرة جديرة بالاهتمام، عكس ما كان يحدث سابقا، إذ احتضنت المنافي البعيدة عددا كبيرا منهم في أزمنة وحقب ماضية، لأسباب مختلفة، لذا يبدو أنّه حين تنتهي هذه الحرب سنعود جميعاً بأسئلةٍ مختلفة وجديدة، وسيكون الوعي بالسودان أعمق وأشمل مما تركناه في الخرطوم قبل الحرب، بحسب باحثين ومراقبين.