الرّجعة للبيت القديم
محمد عبد الماجد
مع كل خسائر الحرب وابتلاءاتها، ومع أنها تجربةٌ عصيبةٌ وقاسيةٌ، إلّا أنّها منحتنا القُدرة على التعامل مع هذه الظروف بجلد وصبر وإيمان، واختبرت قُدراتنا الشخصية، وهي مما لا شك فيه امتحانٌ صعبٌ، نتمنى أن نتجاوزه ونحن أكثر إيماناً وأكثر تماسكاً وقُوةً.
يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (لكلّ شيء زكاة، وزكاة القلب الحزن).. ونحن نخرج زكاة القلوب الآن هماً وشجناً.. فلا تجزعوا انّ الفرج قادم زن شاء الله.
لا يكفي أن تتضامن مع الذين عانوا من الحرب، ولا يغني عن ذلك أن ندعمهم أو نحس بالحسرة والألم من أجلهم، عن طريق (بوست) أو حتى (وقفة احتجاجية)، لا بد أن نعيش (المعاناة) معهم أو أن نكون جزءاً منها. ربما تخرجنا هذه المعايشة الى آفاق أرحب، وتجارب الحروب تخرج أمماً غنية بالإرث وقوية بالصبر والتماسك. هذا إذا نجحنا في أن نتجاوز هذه الأزمة، دون أن نفقد هويتنا أو نتلف بنيتنا الثقافية التي تبقى أهم من البنية التحتية حتى لا يهلك جدارنا الواقي فننجرف إلى حرب أهلية، لا تبقي ولا تذر.
قال فيكتور هيغو أمير شعراء فرنسا: (إن في المصائب جلالة أجثو أمامها).
قد يكون هذا الثمن الذي ندفعه الآن هو كفارة لأجيال قادمة ولسودان شامخ وديمقراطي ومعافي من كل سوء.. نقول ربما، فليس هنالك حقيقة ثابتة في زمن الحرب.
عن الحرب يقول تشرشل: (في الحرب تصبح الحقيقة ثمينة إلى درجة أنها تحاط بحرّاس من الكذب).. وكلام تشرشل لا يحتاج إلى تعليق والصمت هنا أبلغ من الكلام.
يقول هنري لويس منكن: (الحرب تخلّف للبلاد ثلاثة جيوش: جيش المعاقين، جيش الندّابات وجيش اللصوص).. واللصوص أوضح ما خلّفت هذه الحرب، غير أننا يجب أن نعرف أنّ اللصوص الذين خلّفتهم تلك الحرب، ليس هم فقط الذين استولوا على المنازل والسيارات، هنالك لصوصٌ أكثر استفادةً من هذه الحرب، وهم أكثر لباقةً وأناقةً، لذلك ظلوا يشعلون نيرانها بدبلوماسية وادعاءات وطنية يفتقدونها ويرفضون حتى (هدناتها)، باسم الوطن وهو منهم برئٌ، في الوقت الذي يدفع فيه مواطنون أبرياء وأطفال عُزّل ومرضى لا حول ولا قوة لهم، الثمن، ويُقدِّمون التضحيات حتى صاروا هم في انفسهم (ضحايا) أو (جثثاً) مجهولة الهوية.
البعض يفهم (الوطنية) على طريقة قهوة صباحه وربطة عنقه ومذهب (راسل) الذي قال: (الوطنيّة هي الاستعداد لأن تقتل وتقتل لأسباب تافهة)، إلى جانب تلك المخلفات الثلاث التي ذكرها هنري لويس تخلف لنا الحرب أيضاً (تجّار الأزمات) و(الأرزقية) و(الوطنية)، الذين وجدوا في الحرب ضالتهم، فبدّلوا السلام بالحرب، والأمن بالخوف، والاستقرار بالفوضى من أجل مصالحهم الخاصة ورفع حساباتهم من الأرصدة في البنوك والتلفونات.
هؤلاء قال عنهم حمّيد: (الترتزق لا حول حتى من الكتل.. ومو دايرة موت الناس يقل.. الموت يقيف.. شغلن يقيف).. إنهم يرتزقون من (القتل)، وإذا توقفت الحرب توقف شغلهم، غير أنّ عدالة السماء تثبت دائماً أن أكثر المتضررين من الحرب هم الذين يشعلونها، وأول من يحترق بها هو من يوقد نارها.
واهمون هم الذين يظنون أنهم سوف يجنون فائدة من هذه الحرب، لأنّ الفائدة في خراب الوطن تبقى سبة في عنق صاحبها، تظل تلاحقه وتلازمه إلى يوم يحشرون.
من بين الدروس التي يمكن أن نخرج بها من هذه الحرب هو درس جدوى العودة إلى الجذور، لمحمد الحسن سالم حمّيد نبوءات شعرية تحقق كثيراً منها.. خزان الحماداب والمناخ الذي أفرزه سد مروي بعد الإنشاء أفصح عنه حمّيد قبل عشرين سنة من إنشاء سد مروي، في قصيدته التي يقول فيها (شفع العرب الفقارى.. البفنّوا الماسكاهو ايدهم ويجري ساكين القطارة)، ولعل قصيدته أو معلقته باللغة الدارجية (الرجعة للبيت الكبير) نبوءة أخرى، حيث أصبح الرجوع للبلد والعودة للبيت القديم في هذه الأيام الخيار الأمثل لسكان الخرطوم وهم يشهدون النزاع العسكري الذي تشهده مدن العاصمة الثلاث.
يقول جوزيف هملر:.(الحروب يصنعها عسكريّون طموحهم إخراج ذكريات لهم حول أفلام عن الحرب)، وهم يفعلون ذلك الآن باسم الوطن.
أمّا حمّيد، ففي مداواته الشعرية ملاذ، و(تذكرة) الإياب إلى البلد يقول حميد :
أنا ماشي...
راجع..
لي بيوت
تفتح لي أدق
أو ما أدق
من غير تقول الزول منو
ولا حتّى
علّ الداعي خير
لا مالك
الجابك شنو؟
لكن نخشى أن تكون العودة قد أثقلت كاهل الكثيرين وخربت (بيوتهم) مع الإيجارات التي تجاوزت في مدن الولايات المليار بالقديم أو المليون بالجديد، أي ما يعادل 1500 دولار، وهذه قيمة تتجاوز إيجار الشقق في العواصم الأوروبية، في ولايات السودان بلغنا تلك الأسعار دون أن ننكر أن الكثير من البيوت احتفظت بذلك الحنين الذي جاء به حمّيد وأبقت على ملامح الإلفة والسكن وهي ظلت أبوابها مفتوحة دون أن تدخل الزائر أو القادم في حرج السؤال:
من غير تقول الزول منو
ولا حتّى
علّ الداعي خير
لا مالك
الجابك شنو؟
عدم السؤال هنا شكل من أشكال (الكرم) الفطري، الذي تُقدِّمه تلك البيوت للزائر دون أن ينزل ذلك في فاتورة الحساب.. (أومت عيونن لي بعض.. أومت عيونن بي وئام ما ليهو حد.. ما أقوى السلام.. الدون كلام لا ايد لا خد).
نتمنى من أهلنا في الولايات، وجميعنا أبناء ولايات أن يكونوا بتلك (التعرفة) التي نعرفها في بيوت الجالوص وأبواب السنط التي لم تُغلق في وجه أحد.
أهالي الخرطوم الذين نزحوا إلى الولايات وتركوا منازلهم وأثاثاتها عرضةً للنهب والسلب أو القصف أو الضرب، يجب أن تعرفوا أنهم تركوا تلك البيوت التي كانت مفتوحة للقادمين من الأقاليم، فكل من جاء به المرض أو جاء لاستخراج الجواز أو حتى لقضاء شهر العسل وجد في تلك البيوت الرحمة والسكن.
هذه العاصمة التي تعيش محنتها الآن، كانت بيوتها تحتضن طلاب الولايات الذين جاءوا إلى الخرطوم من أجل الجامعة وبقوا في كنف الخال أو العم أو الخالة أو العمة أو حتى ما دون ذلك بكثير، ليبقوا في ديارهم حتى التخرج في الجامعة دون أن يلحظ الطالب بضجر أو يشعر بضيق من أهل الديار.
لهذا فإنّ أقل ما يُمكن أن يقدم لسكان الخرطوم وهم في تلك المحنة أن تفتح الولايات بيوتها ليردوا لهم بعض ما كانوا يقدمونه لكل القادمين من الولايات.
ظنِّي أنّ بيوت الجالوص في الولايات بذلك الأصل والكرم الذي ذكره حمّيد:
إن جيتا ليل
إن جيت دغش
طوّالي
ادفر
الباب
واخش
ناس البلد يبقوا مع ضيق الأوضاع الاقتصادية بتلك الصفات والأريحية التي شعرت بها أبواب بيوتهم وحوائطها:
هادي المخاليق
مؤمنا
بسماحة الدنيا
الهنا
كم تأمنك
يوم تأمنا ولا فرق
بين الضيف
وأنا
لا يوجد فرقٌ بين الضيف وصاحب البيت.. تتلاشى الفروقات وتنتهي.. ولحمّيد القدرة أن ينقل تلك الإلفة حتى لـ(كلوب) الفريق، الأمر ليس قاصراً فقط على (المخاليق):
خابراني
كلّوب الفريق
زولاً رفيق
الليل
وونّاس الدغش
ونسة الدغش هي ونسة ذات طابع خاص تحمل كل الود وفيها كل الأمان، حمّيد على لسان ست نور اعتبر (هوهاي) الكلب أو (نبيحه) في الضيف (بعزاق للأجر)، لا يدري حمّيد أنّ هناك من أصبح ينوب عن الكلب في (هوهيوه):
وناس ست نور
كتلو الكلب
كتلوهو
مجبورين
غصب
ما من نياحتو
ولا سعر
ظنو الكلب
بين الفريق
حامي البطينين
اللعب
آخر الليالي
من البيوت
قافل الطريق
سادّ الدرب
لأخواتها
قالت ست نور
ما دام في أمان
والناس بخير
سعي الكلاب
في الحلة
شر
هوهيوا
بعزاق للأجر
الآن يغيب الأمان في العاصمة وفي معظم ولايات دارفور، ويبحث الناس عنه في ولايات السودان الاخرى وفي بيوت مفتوحة أبوابها بتلك الصورة:
لا طبلة
لا كيلون سويتش
ولا ترابيس
لا جرس
لا سلك شائك
لا ترس
لا غفير
تفاوضو
ولا كلاب تشمّك
شم جراب
فتّيش وجس
لا آهـ لا سيب
كل شيء مختلف في تلك البيوت، الأمر ليس قاصراً على (أقفالها) و(طبل) أبوابها.. لا ترباس فيها، ولا خفير عليها، تلك البيوت حتى (حوائطها) مختلفة، ليس حالها مثل حال حوائط بيوت العاصمة التي رغم أنها عالية ومرتفعة وشائكة ومبنية بالطوب والأسمنت والحديد، إلّا أن كل ذلك لم يحمها ولم يعصم أهلها من السلب والنهب، عكس بيوت الجالوص المتواضعة في البناء والتأمين، لكن الطمأنينة فيها كبيرة والأمان متوفر:
حيطانا
مو أسمنت
وحجر
لا سيخ
لا قزاز
كما اعتبر حمّيد (نبيح) الكلب و(هوهيو) بعزقة للأجر أو ضياعاً له، رفض حمّيد على لسان ست نور أن يكون (وش) الكلب وشاً لهم.. رفضت أن يكون الكلب أول من يقابل الضيوف، هذا أمرٌ لا يتوافق مع سجية طبائعهم الكريمة:
الحلة يكفيها
البشر
كان جاها شر
الحلة يكفيها
الحصانة الفيها
ما دارت كجر
شن فضل
فطن الزرائب
غير بعر؟
صنّت شويتين
ست نور
وشالت حجر
وجدعت حجر
جدعت حجر
وشالت حجر
وقالت:
قرايبها ذات ليل
يمكن يجوها
من السفر
أو زول غريب
حاربو الدليل
عابر سبيل
زنقو المطر
يقصد رواكيبهم
جوّر
أول شيء
يتلقّى الكلب
اللاب يرحّب
لاب يبش
وليشن يتورنا
الكلب
وليش الكلب
يبقالنا وش
في بيوت أهلنا بالأقاليم، نجد تلك الأريحية التي لا يجدها الناس حتى في بيوتهم في العاصمة.
بيوت الطين والجالوص فيها الكثير من الوفاء والإخلاص، وهي أكثر قُدرةً من بيوت الأسمنت والطوب على الاحتفاظ بالملامح والذكريات والتفاصيل الدقيقة.
لماذا دائماً نحن نشعر بالحنين والشوق للبيت القديم؟ بيت الأسرة الكبيرة؟ في ذلك قال الشاعر العربي: (كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل) والمتنبي يقول في نفس الاتجاه (لك يا منازل في القلوب منازل)، وإن كان المحب دائماً يبرر ذلك الحنين: (وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديار).
وأهالي الولايات فيهم شبه من بيوتهم وبيوتهم المفتوحة دائماً للزائر والطارق تشبههم:
البيت دا
بيتك
يا حبيب
أدخل..
مخيّر..
وماك غريب
إتمدا في أقرب
عنقريب
مبهول في حوضو
الهمبريب
النيمة
يا العنابة
ضل
أغشى التكل
خرمان
في شاي
جيعان أُكل
وداك التمر
والزير قريب
بايت من البارح
ملآن
راقد في صدر
الهمبريب
داير تقرأ
ديك كتب هولاد.
وحمّيد يبقى على رسالته (الوطنية) العظيمة، حتي عندما يرجع للبيت القديم:
قول لابن آدم
في بلد
طالت معاناتو
وتعب
سكانو
دايشين
بالشرق
وحكامو
طاشين
بالغرب
نعم سكان هذه البلد (دايشين) في الشرق، وحكامنا (طاشين) بالغرب، من دولة إلى دولة، في تجوالهم الدائم وخروجهم من مطار إلى مطار أصبحوا مثل (كباتن الطيران):
احنا
إللي فاقدين
أيّ شيء
في الدنيا
مالكين
كلّ شيء
بالفينا
بالحيل
ودا الدرب
والتابع الصاح
ما ضهب
شن الأفندية
الكبار؟
خدم المرابين
التجار
حشم المبارين
الكجار
الأزرقية
كضب..
كضب..
نعم هذا هو الشعب السوداني، حتى وهو في تلك المحنة يبقى بذلك الترابط وتلك الأخلاق ومع اننا نفقد كل شيء، إلاّ اننا نملك كل شيء:
نحنا الغلابى
أكبر حزب
لاب نتغلب
ولاب نتقلب
والتابع الصاح
ما ضهب
لا بنتغلب ولا بنتقلب وحمّيد يمضي في تعريفه لهذا الشعب وفي تحدي الصعاب وتجاوزها:
الأعتى منّو
بني وثبوت
لا بوت شفع
لا اجدي توت
لا غرب
لا شرقاً نفع
لا رمّي حرّاسة
ولبوت
وهذا إنذارٌ ورسالةٌ من حمّيد للأرزقية واللصوص الذين يظهرون وهم في كامل الأناقة، يسرقون من الوطن ليس ثرواته فقط وإنما أمنه واستقراره وثورته المجيدة المنتصرة دائماً:
يا من بلع
للذمّة
لع
تنجّي الغلابة
من الخزي
وشرع الله
يبرى
من الشفوت
ويبقى دعانا على كل من سرق ولهف واختطف وخان وأشعل هذه الحرب.. لن يكسب خير كل من تاجر في دماء هذا الشعب باسم الدين أو باسم الوطن من أجل أن يزيد ثورته أو يحقق ذاته:
الصفّا دمك
وكان سبب
في
ها الجرح
إن شاء الله
لا مسى
لا صبح
إن شاء الله
يا بلدي المعمّر
بالعشم
من سفّ خيرنا
يكبّو
مح
وإن شاء الله
لا فاق
لا نصح
كل من ضر هذا الوطن وهو يتحدث بأسمه أن شاء الله لا يشوف عافية ولا خير كل. هذا رهاننا وهذا هو التحدي الحقيقي الذي ينتظر الشرفاء في الفترة القادمة أن نبني ونعمل ،أما اولئك سوف تسألوا عن هذا الوطن وعن هذا الشعب الذي صبر كثيراً:
والله
يا فاتي
الفتن
يسألنا الله عن الوطن
قبل ايّ شيء
يقول جوزيف سيزو: (في الركض أمام العيش هذه الأيام، كثيرون هم الذين لا يتركون في حياتهم مجالاً للحياة).
انتهى!!