ترتیبات الحكم المؤقتة في البیئات الھشة وبیئات ما بعد الصراع (3-3)
روبرت فورستر
٢. الصعوبات الملازمة لترتيبات الحكم المؤقت
تواجه كل حركة أو مؤسسة أسندت إليها مهمة وضع ترتيبات الحكم المؤقت تحديات عدة تتعلق أساسا بالمشاركة التي تشمل الجميع، ومسار المداولات، والتسلسل الزمني للإصلاحات تباعا الواحدة تلو الأخرى، وكذلك كيفية ضمان الأمن والرفاه الاقتصادي اللازمين لتوفير ما سبق ذكره. قد يؤدي الإخفاق في مواجهة هذه التحديات إلى الوهن في عزائم الداعمين، وفي ذلك تعطيل للعملية الانتقالية برمتها. حري بأصحاب المصلحة توقع ما قد يواجه الإصلاح من صعوبات والاستعداد لها مع وضع آليات فض النزاعات بما يتماشى مع أحوال الطور الانتقالي الذي لا تؤمن تقلباته.
من الصعوبات ما هو معهود ووارد الحصول ووثيق الارتباط بمسائل الدعم وشرعية العملية الانتقالية، وقد بينا ذلك فيما يلي.
كل صعوبة تظل مرهونة بالمفاوضات السياسية الجارية حول كيفية تأثير الترتيبات المؤقتة على المشهد السياسي بعد الانتقال، والتي تحركها أساسا مطامح الأطراف المعنية في الاحتفاظ بزمام السلطة.
تمثل الفترة المؤقتة غطاء تنفذ تحته أطراف عديدة غير الحكومة أو الجماعات المسلحة إلى الأجندات السياسية، فترسم ملامحها كما تشاء، رغم ما لهذه الفترة من فضل في إعادة إرساء الشرعية الحكومية وتأجيل المسائل الخلافية، وما تحمله في طياتها من إجراءات مؤقتة لسد الشغور ريثما يتم التحول إلى بيئة أكثر شمولا. وبناء على ما سبق، تمثل الفترة المؤقتة حلبة يتسابق فيها الساسة لضمان البقاء وحصد أقصى ما يمكن حصده من الغنائم. إن في العملية الانتقالية ككل من المخاطر ما قد يدفع فريقاﹰ من الأطراف المتدخلة، وخاصة ذات النفوذ منها، إلى النكث بالعهود وعرقلة العملية برمتها خصوصاﹰ إذا ما لاحت لهم بوادر موقف تفاوضي أفضل ﹰمستقبلا.
٢-١. الشمول والمشاركة
أضحت المداولات العلنية، والشمول والمشاركة العمومية (بما يشكلان من نبذ للإقصاء في الشأن السياسي) سنة من سنن السياسات الانتقالية عند الأطراف المعنية الأساسية والمجتمع الدولي بمرور الزمن، ولعل الفضل في ذلك يعود إلى اندلاع شرارة العديد من التحولات نتيجة لاحتجاجات شعبية. يقتضي الطورالانتقالي في جانبه التطبيقي توازناﹰ بين ميثاق النخبة (أي الصفقة المبرمة بين أطراف النزاع) من جهة، نظرا لدوره في نبذ العنف، وعقد اجتماعي أعمق وأشمل يقوم على الدعم الشعبي (أي العلاقة العمودية بين الحكومة والشعب)، من جهة أخرى. كما يمكن تعزيز هذا العقد الاجتماعي من خلال مزيد من الضمانات في مجال الحقوق والاعتراف بمزيد من المساواة في توزيع السلطة العامة والثروات . سيكون للقرارات (السياسية) تأثيرﹲ على صورة المرحلة الانتقالية، وينبغي في ذلك أن تكون الآمال المعلقة على مخرجات هذه المرحلة عقلانية. تتطلب بعض أركان الطور الانتقالي من قبيل وضع دستور أو إدخال إصلاحات دستورية مشاركة واسعة النطاق كونها تجلياﹰ من تجليات سيادة الشعب ومراعاة لتأثيرها البالغ على مرحلة ما بعد الانتقال.
تشمل الأسئلة الشائعة المتعلقة بالمشاركة التساؤلات التالية: من هم أصحاب المصلحة؟ وأي الأطراف معني بأي عملية؟ ما هي معايير الشمول؟ كيف يتم اختيار ممثلي الجماعات؟ وأي تأثير سياسي لهؤلاء على الجماعة نفسها؟
تتواتر هذه الأسئلة دائماﹰ كلما كان الحديث عن المؤسسات الانتقالية المعنية بالحوكمة والإصلاح القانوني من قبيل الحكومات الانتقالية والبرلمانات المؤقتة والمجالس التأسيسية، وقد تؤدي بعض الإجابات عن هذه الأسئلة إلى إثارة مسائل شائكة من شأنها تقويض ترتيبات الحكم المؤقت.
جرت العادة في صفوف النخبة باختيار الأطراف المتدخلة قياسا على درجة النفوذ، إذ يقع الاختيار على أصحاب الكلمة الفصل داخل الجماعات القادرة على مواصلة النزاع بمفردها إن لم ترضها بنود الاتفاق. ولئن كان هذا المبدأ غاية في البساطة، فإن المعايير التي يتم على أساسها انتقاء أصحاب المصالح الرئيسية في مختلف سياقات ومراحل النزاع لا تكون دوما بذات الوضوح. ذلك أن الدعاية وبعض العوائق الإعلامية الأخرى قد تحجب الحجم الحقيقي لقدرات هذه الأطراف خاصة في بؤر النزاعات المحلية والوطنية والدولية والعابرة للحدود.
إن كل إفراط في إشراك الأطراف ذات الذراع المسلح والتي تنسب غالب الأحيان إلى زمرة أصحاب الكلمة الفصل قد يدفع أطرافاﹰ أخرى إلى مزيد من الميل نحو العنف طمعا في موطئ قدم على الساحة السياسية. إن توسيع رقعة الشمول في اتجاه أفقي (أي بين الند ونده وبين النظراء) بغية تيسير مهمة وضع عقد اجتماعي جديد أو اتفاق دستوري، إن صح التعبير، ليس بالأمر السهل نظرا لتعدد هويات وخلفيات أصحاب المصالح، الدينية أو المدنية الاجتماعية أو السياسية أوالعرقية أو في النوع الاجتماعي، التي ستحاول شق طريقها نحو المشاركة. وفي هذا السياق، يتحجج مناهضو الشمول وإشراك الآخرين بأن كثرة الأطراف تفضي إلى تفرق الكلمة وتجعل التوافق مستعصيا، كما يرون أن اتباع سبيل الشمول يحول دون الجزم بصدق تمثيل هذه الأطراف لناخبيها المزعومين خاصة في غياب انتخابات، فغياب الشرعية والسلطة المستمدة من القاعدة الشعبية من شأنه إضعاف أي اتفاقات قديعقدها الأطراف.
إن الكر والفر بين أطراف اللعبة حول رسم حدود المشاركة سمة أساسية من سمات ترتيبات الحكم المؤقت، وفي مخاض تشكيل حكومة السودان الانتقالية في شهر أغسطس ٢٠١٩ خير دليل. فقد تكونت هذه الحكومة من خمسة أعضاء اصطفاهم المجلس العسكري الانتقالي وخمسة آخرين انتقتهم المعارضة، وعضو واحد اجتمعت كلمة الفريقين عليه، وهنا برزت إحدى محاسن هذه الترتيبات بتعيين العضو الأخير كسرا لجمود تكافؤ وزن الفريقين. بيد أن فريقا من الناس شكك في مدى جدية الإصلاحات الممكنة باعتبار قوة نفوذ الجيش والعلاقة القائمة بين بعض أعضاء المجلس العسكري الانتقالي وقوات الدعم السريع، وهي مجموعات مسلحة تحوم حولها انتهاكات لحقوق الإنسان في إقليم دارفور. لقد أضحى دورالجيش السوداني مستقبلا في السياسة المحلية وتأثيره على التحول الديمقراطي من أبرز الأسئلة المطروحة حول المرحلة الانتقالية.
يعاد التفاوض حول حدود مشاركة النخبة بانتظام على امتداد الطور الانتقالي المؤقت وعلى مستويات عدة بالتوازي، ويتجلى ذلك في ضبط معايير للأحزاب السياسية وضوابط للإصلاحات وأخرى للترشح للمناصب وهلم جراﹰ. هذا، ولا تخضع المشاركة الجماهيرية لمعايير الشمول فحسب، بل تتأثر بالمناخ المدني وبمسائل كالحقوق ومنها على سبيل الذكر لا الحصر حرية التعبير والتجمع وشروط الانتخاب والتشريعات المؤطرة للمنظمات غير الحكومية. تنعكس مقاييس الشمول بالنسبة للنخبة أو العامة على حد السواء، على بنية المؤسسات الانتقالية، وعلى طرق المداولات القائمة على المشاركة (العلنية) من قبيل ملامح الحكومة الانتقالية والسلطة التشريعية وشكل الانتخابات (بما في ذلك رسم حدود الأقاليم الإدارية)، وعلى صيغة الحوارات الوطنية وعلى مسائل استشارية عامة أخرى.
إن القدرة على تعديل القوانين من طرف واحد ضرب من ضروب التطويع بما يخدم مصالح ضيقة لجماعة معينة دون غيرها، ويكون ذلك بسبل تبدو بريئة في ظاهرها. ففي مدغشقر على سبيل المثال، عمد الرئيس الحالي أندري راجولينا إلى تخفيض سن الترشح (وبذلك تسنى له الترشح للرئاسة) وقام بإدخال تعديلات تحول دون ترشح حاملي جنسيات متعددة (قاطعا طريق الترشح أمام أحد منافسيه).يؤدي التلاعب، سرا أو جهرا، بهذه الضوابط إلى تعثر الكثير من المسارات الانتقالية. ويكون التلاعب بهدف إقصاء فريق دون آخر بسبب اختلافات سياسية أو عرقية أو في النوع الاجتماعي. نتبين في ما يلي مسألة المشاركة في إطار المسار الانتقالي بما هي مساهمة في طرائق المداولات.
٢. الصعوبات الملازمة لترتيبات الحكم المؤقت
٢-٢. طرائق المداولات
للبنية المؤسساتية لطرائق وآليات المداولات، وما لها من تأثير على التوجهات المتبعة خلال الطور الانتقالي، ارتباط وثيق بمسألة المشاركة يعكس أحوال صنع القرار. لا تدخر الأطراف المتدخلة في المرحلة الانتقالية جهدا في تمحيص عملية اتخاذ القرار، فكل يسعى لصون امتيازاته في العملية ولا يتم ذلك إلا بدراية واطلاع على السياق الذي يحيط بالمسار الانتقالي ككل .
ومن الأسئلة المتواترة حول عملية المداولات: هل اتسمت آليات اتخاذ القرار بالإنصاف والشمول؟ ومن رسم ملامح هذه الآليات؟ وهل أعطت هذه الآليات أفضلية لطرف دون آخر (كتفوق في النسبة التمثيلية أو حق النقض) عند اتخاذ قرار ما؟ هل كان القرار عادلا؟ وهل كان من الممكن اتخاذ القرار في مجلس أفضل أو أكثر تشاركية؟ إن الأجوبة على هذه الأسئلة لا تختلف عما سبق من أسئلة حول المشاركة، فكلاهما يغذي الخلاف بشكل يؤثر سلبا على مؤسسات المرحلة الانتقالية.
تحمل التجربة الانتقالية اليمنية في طياتها خير مثال على ذلك، إذ جاءت بآلية استشارية شعبية فريدة من نوعها جسدها مؤتمر الحوار الوطني الشامل الذي عجز رغم محاسنه عن طمس خلافات تعلقت أساسا بالمشاركة، الأمر الذي أثر على التداول في بعض الأمور. ذلك أن جماعتين متمردتين هما الحوثيون والحراك الجنوبي جرى تغييبهما عن مبادرة المؤتمر الأولى التي جاء بها مجلس التعاون الخليجي وهو الذي وضع إطار العملية الانتقالية. لم يغن إشراكهم في أمر المؤتمر مصحوبين بفرق عملهم عن إقصائهم مطلع المبادرة وما لبثت الجماعتان أن أعلنتا في مناسبات كثيرة أن المؤتمر عار من الشرعية، بل سعتا إلى تقويضه. ومما زاد الأمر سوءا تعديل صيغة المؤتمر وتقليص عدد المشاركين إلى ٨٢ عضواﹰ شكلوا الكتلة الوطنية وحينها أحست الجماعتان بالظلم في حجم التمثيل. دفع الجدال العقيم حول شكل الدولة اليمنية النهائي وحدودها المقترحة الرئيس الانتقالي هادي إلى استخدام سلطة النقض لكسر الجمود، فعمد إلى مزيد من التقليص والاختزال من طرائق المداولات، وهو ما ساهم جزئيا في العودة إلى تأجيج النزاع. يصور النموذج اليمني الكيفية التي يجب أن تبقى بها هيكلة المؤسسات منسجمة مع ’روح‘ العملية الانتقالية. فإن تم لخيارالعملية الانتقالية على أنها ’تشمل الجميع‘ وانتظرت الجماهير احترام ذلك واقعا، كان لزاما على ترتيبات الحكم المؤقت أن تعكس هذه الانتظارات. ذلك أن إشراك ممثلي مجموعة ما، لا يعني بالضرورة تأثيرهم على العملية، وقد تكون هذه حجة تستغلها أطراف معارضة للانشقاق.
٢-٣. تسلسل الطرائق وعمليات الإصلاح
يقصد بالتسلسل المهمات والجداول الزمنية الانتقالية التي تفرضها ترتيبات الحكم المؤقت، وهي لا تخلو من الصعوبات. أي إصلاحات يجب تقديمها على غيرها؟ وهل هناك تسلسل معين يحقق الاستقرار للعملية الانتقالية ويعاضدها؟ ماهي العوائق الإدارية والعملية التي تنعكس على التسلسل؟ ما هو الإجراء الذي ينبغي اتباعه في حالة تعثر المسار انتقالي؟ عجيب أمر ترتيبات الحكم المؤقت: إذ تحمل في ثناياها تناقضا يجعل ما كتب في الوثائق الانتقالية من تسلسل مفصل الخطوات متضاربا مع ما ينتجه ’منطق التفاوض‘.
تبنى التسلسلات المتبعة في ترتيبات الحكم المؤقت على افتراضات أربعة تنبع الانتقال وتشير إليها أدبيات بناء السلام، أولها افتراض شامل بضرورة سلوك ترتيبات مثل هذه منحى تدريجي في بنائها للسلم فيكون التعامل مع المسائل كل على حدة وتقسيمها إلى أجزاء بهدف التيسير. وثانيها أن حدا أدنى من الأمن مطلوب نسبيا حتى يتقدم المسار الانتقالي. أما ثالثها فهو الافتراض ضرورة وجود حكومة مؤقتة للتمكن من القيام بإصلاحات معينة ولتسيير شؤون البلاد إلى حين. أما آخرالافتراضات فهو ضرورة تقديم إرساء مؤسسات الدولة على التوجه نحو الليبرالية في السياسات، لسببين: خشية الاضطرابات المحتملة نتيجة الانتخابات وما يتبعها من نقاشات سياسية مفتوحة، أو مراعاة الحاجة إلى بعض الإصلاحات الانتقالية قبل إجراء انتخابات حرة ونزيهة أو كلاهما.
يقتضي تنظيم الانتخابات توفر طرائق استشارة شعبية مع مشاركة واسعة النطاق للأطراف المعنية متى كانت الأوضاع هشة. ولعل أحد السبل لإدراك ذلك وترك متسع من الوقت لبناء الثقة خدمة لاستقرار البلاد يكمن في تمديد الطور الانتقالي، لكن كلما طالت هذه المرحلة ضعفت شرعية الحكومة المؤقتة.
تبنى الآجال القصيرة في وثائق المرحلة الانتقالية في أرض الواقع على مبدأ عملي، إذ تنخفض بقصرها التكاليف المادية وتتقلص ضريبة هذه المرحلة على الاستقرار الداخلي مما يعزز فرص الدعم الدولي والمحلي. تبني العقول الأجنبية المدبرة لترتيبات المسار الانتقالي حساباتها على حلقات تمويل لفترات انتقالية أقصر زمنيا حفظا لخيار الانسحاب من المسار.
٢-٤. الصعوبات الأمنية
تخوض الأطراف المحلية غمار تحديات أمنية عديدة على امتداد المرحلة الانتقالية لا يكون تأثيرها بمعزل عن تطور المسار الانتقالي ككل. ففي مطلع المفاوضات تواجه الحكومات صعوبات متعلقة بالتفاوض مع جهات غير رسمية من عدمه، وفي ذلك إقرار بشرعية كفاح هذه الجهات مما قد يشجع أمثالها من المتمردين على حمل السلاح علهم يظفرون بشيء من الشرعية من لدن السلطات. تواجه الجماعات غير الرسمية من جهتها تهديدا أمنيا خلال فترة نزع السلاح، فمتى سلمت سلاحها للسلطات أصبحت معرضة لبطش السلطات متى اختارت الحكومة ارسال قواتها والبطش بالجماعات في مرحلة التطبيق. لامناص لأي طرف كان، في واقع الأمر، من الصعوبات الأمنية خلال مرحلة تنفيذ المسار الانتقالي. فقد يجد طرف ما نفسه في موقف حرج إذا ما نكثت إحدى الأطراف الأخرى بالعهد وبادرت بالعدوان. وفي ذات السياق، توجد أمثلة عديدة على استغلال أطراف صراع ما فترة وقف إطلاق النار لتحريك قواتها استباقا للمرحلة القادمة من النزاع. لا تكاد أي عملية سلام تخلو من هذه الصعوبات كما إنها لا تقتصر على ترتيبات الحكم المؤقت. ومع ذلك يجب على الأطراف المحلية والدولية التدخل للسيطرة على الأوضاع حتى يحقق المسار الانتقالي تقدما.
٣. العقبات التي قد تظهر خلال الفترة الانتقالية
تساهم الصعوبات التي ذكرناها أعلاه في انهيار ترتيبات الحكم المؤقت أو عودة الأوضاع إلى سيرتها الأولى وحينها يتواصل المسار عبر تجزئة الخطوات بطريقة تكرارية. نذكر في ما يلي بعض هذه المسائل:
خرق اتفاقات وقف إطلاق النار:
قد تحصل انشقاقات بين أطراف الصراع في أي وقت خلال الفترة الانتقالية، إذ قد ترجع هذه الانشقاقات إلى أي من الآليات المذكورة آنفاﹰ والمرتبطة بعيوب طرق المداولات، أو قد يكمن السبب في ظن طرف ما أن الاخلال بالاتفاق يخدم مصالحه بصورة أفضل، أو عجز قصور الترتيبات عن توفير الضمانات الأمنية الكافية لتمكين أصحاب المصلحة من المشاركة في ترتيبات المرحلة الانتقالية. لا بد من اتفاق وقف إطلاق نار بين أطراف النزاع الأساسية متى تم إرساء ترتيبات الحكم المؤقت، فلا يمكن للأطراف المعنية إقامة حكومة تتشارك فيها السلطات والحرب بين منتسبيها لم تضع أوزارها بعد. يبقى إرساء المسار الانتقالي ممكنا في بعض الحالات رغم تواصل الصراع في بعض البؤر (تواصل الاشتباكات في جمهورية الكونغو الديمقراطية خلال فترة تطبيق اتفاق صن سيتي سنة ٢٠٠٣مثالا. تعكس تطورات النزاع هذه ترابط عناصره إذ غالباﹰ ما تتداخل الصراعات المحلية والاقليمية والوطنية في ما بينها لتنسج نظام صراع يحمل في جعبته عوائق لإدارة العملية الانتقالية.
تحديات تقاسم السلطة:
تعد طرائق تقاسم السلطة محفزا لخلق توافق بين أطراف المسار الانتقالي على عيوبها في الجانب التطبيقي. ذلك أنها سبيل من سبل ضمان البقاء سياسيا والحصول على موطئ قدم في هذا المسار لأطراف الصراع . فقد شهدت سنة ٢٠١٩ مثلا تمديد الفترة ما قبل الانتقالية في جنوب السودان بغية تشكيل حكومة تشاركية في ظرف ١٠٠ يوم، وكان ذلك بسبب غياب التوافق حول تركيبة الحكومة. ولا تتوقف الصعوبات عند حدود التعيينات الوزارية وفقا لمبدأ التشارك في السلطة فحسب، بل تبرز أيضا عند رفض إدراج هياكل موازية من قبيل الوحدات العسكرية المنحازة الولاء في صلب جيش الدولة في إطار اتفاقات الترتيبات الأمنية المتعلقة بتشارك السلطة العسكرية. لا بد من حسن إدارة اتفاقات التشارك في السلطة درءا لشرور الاكراه أو التنافس بين مختلف أصحاب المصالح بالطور الانتقالي. تواجه اتفاقات تقاسم السلطة الوطنية تحديات متى لم تشمل الترتيبات غير المؤسسات العليا التي لا قدرة لها على دعم التنمية المؤسساتية أو فض النزاعات المحلية، وبذلك تصبح الترتيبات نخبوية بحتة لا تشمل سائر الطبقات. وفي الوقت نفسه، عندما تمتد ترتيبات تقاسم السلطة إلى مستوى ما دون الدولة الدولة، فإنها غالبا ما تكون سببا لدوران العمالة عندما تحاول الإدارات المحلية التوفيق بين صيغ تقاسم السلطة المحلية، متى حاولت الأذرع الإدارية للسلطة التماهي مع طرق تقاسم السلطة وفقا لتركيبة المشهد المحلي، وفي ذلك ضياع للذاكرة المؤسساتية، الأمر الذي قد يؤدي إلى إسناد مناصب إلى غير أهلها. ومن النقاد من يرى في ترتيبات تشارك السلطة تكريسا مؤسساتيا لانقسامات النزاع السياسية، وفي ذلك مزيد من تعقيد الأوضاع. يمكن للمؤسسات التي بنيت على تشارك السلطات أن تتسبب في تضخم حجم الدولة، أي الإفراط في إنشاء مؤسسات انتقالية أو أن تتسم هذه بتضخم الهيكلة مثل مجالس رئاسية موسعة أو هيئات استشارية عديدة متشابكة أو هيئات تشريعية متضخمة.
غياب الوضوح في حدود مدة الولاية:
إذا كان بعض الغموض في رسم الترتيبات الانتقالية يسعف في حل المسائل الخلافية بدهاء، فإن الضبابية في تحديد فترات الولاية قد يخلق اضطرابات. عادة ما تصاغ فترات الولاية بشكل ضبابي في الوثائق الانتقالية عن طريق (خليط من الآليات التي تضعها الأطراف المعنية وفق أهوائها، واقتراح الوسطاء الدوليين ما أمكن من الحلول للمشاكل). لكن تبقى الحاجة إلى التوصل إلى طريقة لتوضيح الحدود الزمنية لفترات الولاية، مع الالتزام بها، برهانا على عدم إمكانية ختم مفاوضات السلام بترتيبات حكم مؤقت ودليلا على الحاجة إلى آليات فض النزاع ومواصلة المفاوضات لكسر لجمود الناتج عن هيكلية المؤسسات.
صعوبة إدارة انتقال صلب داخل انتقال آخر:
كثيرا ما يهرع الوسطاء وأصحاب المصلحة إلى صياغة مسار انتقالي جديد متى ساءت أحوال اتفاق ما. قد تحيد الخطط الجديدة عن سيرة سابقاتها من ترتيبات الحكم المؤقت، لكنها تبقى مستندة بشكل كبير إلى الأطر السابقة، مثل اتفاق ٢٠١٨ المعاد تفعيله حول فض النزاع في جمهورية جنوب السودان الذي سعى لإعادة العمل باتفاق تحت نفس التسمية يعود إلى سنة ٢٠١٥ مع إدخال تعديلات بسيطة، أو مثل الاتفاق السياسي الليبي لسنة ٢٠١٥ بما هو محاولة لإعادة التفاوض حول المسار الانتقالي المبني بدوره على الإعلان الدستوري لسنة ٢٠١١ والذي يلعب دور الإطار القانوني الأصلي. إجراء ’انتقالات داخل انتقالات ‘ على أرض الواقع مهمة معقدة إذ تلقي الاتفاقات القديمة بظلالها على الخيارات المطروحة، وقد تعجز المساعي الجديدة لتوسيع نطاق المسار الانتقالي عن تلافي ما خلفه فشل الاتفاقات السابقة.
تشبث أطراف الحكم المؤقت بالسلطة بعد انقضاء فترة ولايتهم:
تضم ترتيبات الحكم المؤقت طائفة واسعة من الشخصيات القيادية التي تأبى تسليم السلطة عند انقضاء الآجال القانونية، وهذا ليس مفاجئا، باعتبار أن الصراع على السلطة واتباع والمشاركة في الحكم يشكلان أصلا الدافع الأساسي إلى فترة انتقالية. تضعنا هذه المعطيات أمام واقع مفاده أن أهل السلطة المؤقتة يعمدون في كثير من الأحيان إلى تطويع مخرجات المسار الانتقالي بما يخدم بقاءهم في سدة الحكم وإلا فلا حافز لهم لإكمال المسار كما ينبغي. قد يتجلى ذلك في تمديد الفترة المؤقتة مع المحافظة على نفس الوجوه أو توصل المسؤولين إلى صيغة تتيح لهم البقاء ولو على حساب الشرعية. ولئن كانت الدوافع الشخصية جديرة بالاهتمام، فإن البقاء في الحكم يعتمد ﹰجزئيا على الاقتصاد السياسي للمرحلة الانتقالية، ذلك أن المشاركة في ترتيبات الحكم المؤقت يفتح دروبا جديدة نحو الكراسي تمر بمؤسسات الدولة والصناديق الدولية ( بما فيها تمويلات عمليات السلام) والكسب من اقتصاد الحروب، وبذلك تتوطد علاقات الأفراد بأولياء نعمتهم وتطيل أعمار مناصبهم المؤقتة نظرياﹰ. فمن البديهي إذن تعثر المسار في ظل غياب الحوافز. يمكن كذلك إقامة انتخابات شرط توفر متابعة كافية، وحتى لو أقيمت انتخابات حرة ونزيهة تبقى حظوظ شخصيات الفترة المؤقتة قوية ﹰنظرا لما لها من صيت وسجل قيادي ناجح ويمنحهم ذلك أفضلية خلال الحملات الانتخابية. قد لا يكون في الأمر سوء نية، لكن لا غبار على السبيل التي تصبح عبرها وجوه الحكم المؤقت راسخة، ولعل الرئيس الأفغاني حامد كرزاي خير مثال على ذلك. إذ تم تعيينه رئيساﹰ للبلاد ورئيسا للإدارة الانتقالية خلال الفترة الممتدة من ٢٠٠١ إلى ٢٠٠٤ وهي السنة التي فاز فيها بمقعد الرئاسة قبل أن يعاد انتخابه لولاية أخرى من ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٤.
غياب أثر ملموس على أرض الواقع: يقول أحد المحامين في حديثه عن العملية الانتقالية في السودان سنة ٢٠١٩ من الهين تغيير القوانين لكن الصعوبة تكمن في تغيير العقلية‘. إن الملموس على أرض الواقع من آثار الإصلاحات الانتقالية التي وعدت بها الدولة من ركائز نجاح ترتيبات الحكم المؤقت. فإن تواصلت ممارسات العهد البائد، سواء كان جور القوات الأمنية أو فساد المسؤولين المحليين، تضاءلت مكاسب الحوار الوطني والآمال المعلقة على المسار ككل. لابد كذلك من تحسن ملموس للوضع الاقتصادي، ذلك أن الاضطرابات السياسية تجر مشاكل اقتصادية منها عرقلة الاقتصاد الوطني وتدني ثقة المستثمرين والتضخم المالي ونزوح السكان وغلاء المعيشة ناهيك عن تكاليف إعادة البناء الباهظة. مما يزيد أوضاع الحكومات الانتقالية سوءاﹰ هو تصدع بنيان الحكومة كمؤسسة ونظم المحاسبة والبنية التحتية العمومية، إضافة إلى تفشي الفساد والعجز عن الاحتفاظ بالكفاءات واضطراب السيولة المالية، مما ينعكس على سداد أجور موظفي الدولة. إن تفشي البطالة يسهل تجنيد المقاتلين. قد ينجم عن النزاع أحياناﹰ وهن في البنية التحتية وتضرر لخدمات الدولة كتوفير الكهرباء وإدارة النفايات، كما يمكن أن تنضب تمويلات التنمية إذا ما أنفقت الأموال على العمليات والخطط السياسية بدلاﹰ من نجدة الوضع الإنساني والتنموي الهش أصلا.
٣. العقبات التي قد تظهر خلال الفترة الانتقالية
صعوبات التأخير والتمديد والتأجيل:
قد تتبدد أجواء التفاؤل الأولى إذا ما تم تأخير أو تمديد الفترة الانتقالية زيادة عن الحد، وقد يتآكل الغطاء الشرعي للمرحلة خاصة متى كانت الحكومة غير منتخبة. لا بد من تحديد العمليات الإصلاحية التي ستتجاوز سقفها الزمني بوضوح، وفصلها إن أمكن في جانبها المفاهيمي والسياسي عن بقية عناصر المسار. وإن كان لا مفر من التأجيل في بعض المسائل الأخرى، مثل تشكيل الحكومة والعمل بطرق الاستشارة الشعبية، فلا غنى عن تفعيل آليات فض النزاع.
صعوبات الإدارة المتكيفة:
لا بد من تطبيق آليات فض النزاع حتى تكون إدارة الترتيبات المؤقتة متكيفة. تصاغ الوثائق المتعلقة بالترتيبات من قبل مجموعة معينة من أصحاب المصلحة عند ظرف زمني معين، وقد تتغير هذه الظروف دون سابق إنذار. قد يبزغ فجر أقطاب جديدة ويأفل نجم أخرى، وقد يشتد الدعم الدولي أو يتناقص، وقد تنبت الأوضاع السياسية تحالفات جديدة أو تذهب الرياح أخرى قديمة. إن الضغط الذي تقام فيه تدابير الحكم المؤقت يحتم انهيارها أو يكاد، وخير دليل على ذلك الترتيبات العديدة التي يفرض النزاع إعادة التفاوض بشأنها. ونخص بالذكر منها ما يوسع نطاق التسوية لكي تشمل أطرافا جديدة تمنح لها مناصب في الحكومة والبرلمان.
إن التعويل على الإجماع في صنع القرار أملا في تحسين وجهات نظر جميع أصحاب المصلحة يشترط التسليم بتفاوض جميع الأطراف بحسن نية، ومن النادر أن يكون الأمر كذلك. إن وجود أطراف ثالثة - خاصة قوات حفظ السلام المسلحة - فعال خلال تنفيذ التسويات المتفاوض عليها، فإذا ما غابت مثل هذه الالتزامات، تعتمد بعض المسارات على الوسطاء الدوليين لحل الخلافات (مثل جنوب السودان ٢٠١٣ ولحد الآن). أما في نطاق أضيق وأقل تدويلا، تصبح الحلول المحلية ملحة.
يمكن أن تكون المحاكم، شريطة ضمان استقلاليتها، وسيلة فعالة لتسوية الخلافات توفيرا للهيئات الانتقالية الزائدة عن الحاجة (مثل كينيا ونيبال). تشمل أساليب أخرى من عمليات السلام (ليست ترتيبات الحكم المؤقت بالضرورة) لجان التنفيذ والمراقبة (مثل كولومبيا ونيبال وجنوب إفريقيا) أو لجان تسوية الخلافات (مثل ليبيا)، واستخدام آليات حل الخلافات التقليدية (مثل كينيا ونيجيريا والفلبين / مينداناو وجنوب السودان)، أواعتماد إجراءات محددة لتسوية الخلافات (مثل بابوا غينيا الجديدة / بوغانفيل). من الممكن تركيز آليات تسوية الخلافات على قطاع بعينه، حيث غالبا ما تكون الخلافات الانتخابية من نصيب المحاكم العليا أوالهيئات الانتخابية الوطنية. كما ينبغي الانتباه إلى احتمال تسييس هيئة ما قبل اختيار الآلية، فمن شأن اللجوء إلى حكم منحاز لكسر الجمود أن يزيد من التوترات سوءا.
المصدر:
www dot idea dot int