جعلونا نحسد (البعير)!!
محمد عبد الماجد
في سيرة سيدنا عمر بن الخطاب وهجٌ لا ينتهي رغم مرور أكثر من 1400 عام على تلك السيرة العطرة. سيرة الفاروق تعتبر أدباً في العدل أو عدلاً في الأدب، أو هي في حقيقة الأمر قمة هذا وذاك.
يحكى الرواة أنّ الفاروق عمر رضي الله عنه كان وهو أميراً للمؤمنين (يدخل يده في عقرة البعير الأدبر ليداويه وهو يقول: إني لخائف أن أسأل عما بك). ومن كلامه في هذا المعنى: (أنه لو مات جديّ بطف الفرات لخشيت أن يحاسب عمر).
ويحكى عن عدله أنه لو عثرت بغلة في العراق لحمل الفاروق وزر عثرتها، فما بال (الجثث) التي عرضت ممددة في نيالا لبعض الأهالي من المدنيين وهم يحتمون بالجسر، جرّاء اشتباكات بين الجيش والدعم السريع. وماذا عن مقتل عشرين مدنيا في منطقة الكلاكلة؟ وستة اخرين في ام درمان.
حرب العسكر الدائرة الآن تكاد ان تكون حرب ضد المدنيين.
(39) في نيالا.
(20) في كلاكلة.
(6) في امدرمان.
قتلوا اولئك خلال ساعات متقاربة، اغلبهم من النساء والاطفال.
حمل يوماً سيدنا عمر متاع امرأة من رعيته وجدها جائعة في غسق الليل، وعندما تقدم أحد أتباعه ليحمل عنه وزر تلك المرأة قال أمير المؤمنين: (كلا بل تحمله كتفي، من يحمل عني الأوزارا عندما تقوم الساعة؟).
بغلة يا سادة يخشى الفاروق من (عثرتها) في العراق وهو في المدينة!! وليس شعباً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويموت أهله موت (الضأن)!!
أليس بين أياديكم يد تواسي أولئك المكلومين كما كان يفعل الخليفة الثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدخل يده في عقرة البعير الأدبر ليداويه؟
بغلة تعثر.. وليس شعباً يتعرّض للرصاص والقصف والجوع والمرض واللا مبالاة، وبعير يداوي، وامرأة يحمل عنها أمير المومنين (وزرها) في جنح الليل بعيداً عن (الكورنيش) وشارع النيل وزفّـة مواقع التواصل (الافتراضية)!!
من يحمل وزر الشعب السوداني؟
لقد قرّروا ونحن في هذه الحرب، زيادة أسعار الوقود، رغم أنّ المواطنين فقدوا سياراتهم (نهباً)!!
قرّروا ونحن في هذه الحرب والشعب كله ينشد الهجرة والخروج خشية من القصف والرصاص أن يجعلوا رسوم استخراج (جواز السفر) تصل لـ 150 ألف جنيه، وفتحوا الحدود مع مصر وتشاد وإريتريا، وكأنهم حكموا على المواطن أن يبقى في داره إلى حين الموت برصاصة طائشة او عبر القصف الجوي.. هذا فقه لكيفية الاستثمار في الأزمة. وفي بعض الولايات وصل رسم الجواز الي 171 الفا. لا ادري لماذا التفرقة بين الولايات؟ ولا اعرف سر الالف فوق الـ 170 الف جنيه. كان يمكن ان تكون 170 او 175 الف جنيه بدلا من هذه (الكسور)، التي تعمل بها وزارة المالية، وجبريل ابراهيم الذي لم يجبر له كسر!!!
المواطن السوداني رسم مغادرته من الحياة الدنيا (رصاصة)، لا اكثر من ذلك.
إنّ حياة البعير في عهد الفاروق عمر كانت أكرم من حياة أناس جلعتهم الحروب يذوقون الذل والهوان، ويتنقلون بين الحدود بحثاً عن الملاجئ بعد أن لفظتهم بلادهم.
هل تصبح الملاجئ أرحم من المنازل؟
أمير المؤمنين كان يدخل يده في عقرة البعير الأدبر ليداويه وأنتم تزيدون رسوم استخراج وثيقة السفر!! يدخلون أيديهم في (جيب) المواطن الذي لا يهمهم في شيءٍ، بدلاً من مُداواة جراحه، وهو يعاني في الحصول على جرعات لمرضى السرطان والفشل الكلوي، الذين يموتون عوزاً وحاجةً، ذرافات ووحدانا، في قباب الملاجئ التي لا تحمي من البرد ولا الحر، ولا تقي من المطر، وقبل ذلك تمسح بكرامتهم الأرض.
ليتهم بكتفوا بذلك فبعد السلب والنهب يتعرض المدنيين للقصف الجوي. يموتون وهم يحتمون تحت الجسور كما في نيالا أو هم قابعون في بيوتهم كما في أم درمان والكلاكلة، والجنينة.
لو كانوا (بعيراً) في ولاية الفاروق عمر بن الخطاب وليس في ولاية الخرطوم لكان حظهم أفضل حالاً من حالهم الآن!!
لقد دخلت امرأة النار في (هرة) لا أطعمتها ولا أطلقتها لتأكل من خشاش الأرض (لا حمتها ولا منحتها جواز سفر)، فكيف يكون حالكم أنتم؟ يوم تبلغ القلوب الحناجر و40 مليون سوداني بعضهم محبوس في منازلهم، وبعضهم في الملاجئ لا يجد شيئاً من (خشاش) الأرض، وما تبقى من الشعب هائماً على وجهه همّاً وغمّاً لحال أهلهم وبلادهم وأخبار الفضائيات التي لا تقدم شيئاً عن السودان غير (الدخان) إن أرادوا الرفق قالوا: (أعمدة) الدخان المتصاعدة في سماء الخرطوم، وإن قصدوا المشقة قالوا: (سحب) الدخان الكثيفة.
السودان بلد الخير والبركة والصالحين والطيبين، أصبح بلد سحب الدخان الكثيف.
لقد أمطرت (حصواً)!!
البلاد التي كانت تُصدِّر القطن والصمغ العربي للخارج، أصبحت تُصدِّر ألسنة الدخان لعنان السماء.
وهؤلاء وهؤلاء من خرج منهم ومن بقي في داره سُلبت ممتلكاته، ونُهبت ثرواته، وانتهكت كرامته. فقدوا سياراتهم وأرواحهم، منهم من قُتل ومنهم من ينتظر، وحال الذي خرج وغادر ليس أفضل من حال الذي قرّر البقاء من أجل أن يموت دفعة واحدة بدلاً من أن يموت بالقطاعي.. فضّل أن ينتحب في داره بدلاً من أن ينتظر في الملاجئ.
امرأة دخلت النار في هرة!! ترى أي نار يمكن أن تتّسع لكم وتقبل بكم وأنتم نقلتوا النار والجحيم لأرض الوطن؟ الوطن الذي لا يعنيكم منه غير كراسي السلطة، ومرارات شخصية وتصفية حسابات خاصة لا تعني الشعب السوداني في شئٍ.
امرأة دخلت النار في هرة لا أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، وأنتم خمسة أشهر لم تصرفوا الرواتب للموظفين والعمال وزدتم رسوم الجواز والوقود. لا صرفتم لهم ولا تركتوهم يُهاجرون!!
نتحدّث عن شعب.. لا نتحدّث عن هرة.
سوف تسألون عن أكثر من 4 ملايين شُرِّدوا من الخرطوم بسبب الحرب. تركوا بيوتهم وهجروا ديارهم لتُنهب وتُسلب، ومن بقي منهم كانت حياته وحياة أسرته معرضة للموت والخطر والجوع والرُّعب.
ستسألون عن آلاف النازحين الذين هربوا من ولايات دارفور، بعد أن تعرّضوا للقصف ليتعرضوا الى أوضاع وهم لاجئون أسوأ من التي هربوا منها. هؤلاء فضّلوا أن تسيل (دموعهم) بدلاً من أن تسيل (دماؤهم) فما نجحوا في ذلك، فقد سالت الدموع ولم يتوقّف سيل الدماء.
ستُسألون عن عدد مهول من المفقودين تجاوزوا حسب الإحصاءات الرسمية 1500 شخص، (هذه الإحصائية قبل أكثر من شهر). هؤلاء المفقودون من جنس البنى آدم وليس من البعير.
ستسألون عن مئات القتلى من المدنيين.
المثل الشعبي الذي يقول:(ميتة وخراب ديار) نعيش واقعه ويطبق حرفياً في السودان.
أبناء وطني منهم من يفترش الأرض في مدني تحت سماء ممطرة ودرجة حرارة عالية، ومنهم من رحل شمالاً وصرف مدخرات العمر وفقد حصاد السنين من أجل أن يحصل على سكن ليقِي اطفاله من شر التشرُّد والضياع والرصاص.
الملايين من المصابين بالسرطانات والفشل الكلوي فشلوا في الحصول على جرعات العلاج وأدوية الغسيل. مصابو الفشل الكلوي يقتلهم (الفشل) في الحصول على جرعات الغسيل. فقدوا حياتهم بعد أن (فشلنا) في توفير الدواء لهم وكان (فشلهم الكلوي) أرحم عليهم من (فشلنا) معهم!!
هذا البلد مصاب بالفشل التام.
أكثر من 5 ملايين لاجئ شرّدتهم الحرب التي توشك الدخول في الشهر السادس، بينهم أكثر من 2 مليون طفل، وجدوا أنفسهم تحت القصف والرصاص والموت الزؤوم. تشرّدهم لم يكن أهون عليهم من الموت برصاص الحرب.
إننا نفقد ونفقد في كل دقيقة إضافية في هذه الحرب.
البرهان قال في أحد خطاباته إنّ استمرار الحرب سوف تؤدي إلى تفتيت السودان؟ ماذا تنتظرون؟
هل تنتظرون تفتيت السودان؟
قيادات الدعم السريع ومستشارو حميدتي من عواصمهم التي طيرها عجم، قالوا إن الدعم السريع لم ترتكب انتهاكات؟ ولا أعرف ما هو مفهوم الانتهاكات عندهم؟ هل بيوت المواطنين وسياراتهم حلال عليهم؟ هل الاغتصابات والموت رمياً مُجازٌ عندهم؟ هل السلب والنهب لا غضاضة فيه في شرعهم هذا؟ هل تجنيد الأطفال القُصّر لا حرج منه؟
قصف الاحياء وقتل المدنيين جوا .. ايضا يعتبر انتهاك.
الذين فروا من منازلهم فقدوا ممتلكاتهم وثوراتهم .. والذين قرروا البقاء في بيوتهم فقدوا ارواحهم.
أما الذين يحللون من داخل أستديوهات الفضائيات العربية أو من العواصم العربية والأوروبية من الطرفين ويؤكدون انتهاء الحرب وسيطرة الطرف الذي ينتموا إليه، فهم يُجسِّدون (الجعجعة) التي لا (طحين) فيها. بعضهم يحمل صفة (خبير عسكري)، وبعضهم (خبير إعلامي)، ومنهم (الخبير الاستراتيجي)، هؤلاء أثبتوا جميعاً أنهم لا يمتلكون ذرة من الخبرة، أولئك الذين كانوا قد قطعوا بحسم المعركة خلال 48 ساعة والحرب توشك الآن للدخول في الشهر السادس!!
هؤلاء الخبراء والمحللون والمطبلاتية والفلول يرتكبون (انتهاكات) لا تقل عن انتهاكات الدعم السريع.
إنّ أولئك الخبراء الذين خدعوا الشعب وساعدوا في إشعال الحرب وهم يتحدّثون عن السيطرة والاستنفار وهم في العواصم العربية والأوروبية، لا يختلفون كثيراً عن الذين يقتلون ويسلبون وينهبون. إنّ من يكذب يمكن أن يفعل أي شيء. جميعهم يفعل ذلك باسم الوطن!!!
هذا الوطن لا يُبنى بالكذب ولن يُبنى عن طريق الانتهازيين. إنّ الوطن يدفع كفارة أولئك المحسوبين عليه من الانتهازيين، الجائلين بمواقفهم من حال إلى حال، ومن عاصمة إلى عاصمة، ومن فضائية إلى فضائية حسب ما تقتضي مصالحهم الخاصة وأرصدتهم الحسابية.
عِلّة الوطن الحقيقية في المتلونين الذين لا موقف لهم ولا مبدأ. صاحب المبدأ لا خوف منه حتى وإن كان على خطأ.
الأوطان تُبنى بالشرفاء وليس بالحناجر التي (تلعلع) من الخارج.
للخبراء أولئك وللجميع حتى لا تخدعهم الأماني، نقول إنّ هذه الحرب من الصعب أن تُحسم (عسكرياً)، وإنّ تلك الحرب سوف تستمر إلى أن يصبح تعداد سكان السودان 7 أشخاص وليس نسمة إن كنتم تنتظرون (النصر) العسكري والذي سوف يكون ثمنه غالياً جداً وهو زوال الشعب والنيل والوطن.
ما جدوى انتصار يصبح فيه سكان السودان كلهم في (المقابر)؟
سوف نظل في حالة كر وفر واشتباكات دائمة وانتصارات هنا وهناك وعودة الي ألسنة الدخان المتصاعدة وألسنة المحللين والمستشارين الطويلة الذين يستنفروا في المواطنين وهم قابعون بالخارج.
وطن مستقر وموحد وجيش واحد قومي لا يمر بهذا الطريق.
اللهم أحفظ الوطن وأهله وعجِّل لنا بالحل الذي فيه خيرٌ للسودان وأهله.
الدكتور منصور خالد في كتابه (المجلد) الذي يحمل اسم (السودان.. أهوال الحرب طموحات السلام.. قصة بلدين) ذكر حسب روايته حكاية تجعلنا نخشى أن تكون نهاية هذا الشعب وهذا الوطن قبل نهاية الحرب.
يقول منصور في كتابه:
(قرأنا رسالة ساخرة لمواطن سوداني (حامد محمد فقير) نشرتها جريدة الحياة، 1 فبراير 2000، قال فيها إنّـه ظل يرفع يده كل صباح يدعو ربه قائلاً: إن شاء الله نصبح ما نلقى الحكومة. تلك الدعوة لم يستجب الله لها، فطفق الداعي يقول: إن شاء الله تصبح الحكومة ما تلقانا. وبغض الطرف عما في تلك الكلمات من سخريةٍ، إلا أنّ فيها أيضاً ما يشين الحكام والمعارضين على وجه سواء).
قد يأتي صباحٌ على الحكومة التي انتقلت من الخرطوم إلى بورتسودان وهي تتحدث عن السيطرة التامة على الخرطوم فلا تجد الشعب على غرار المواطن السوداني في رسالته لصحيفة الحياة اللندنية الذي قال: (إن شاء الله تصبح الحكومة ما تلقانا).
مع أن الصورة قاتمة، ولكن إن شاء الله سوف تفرج وينتصر الشعب السوداني، فعندما يزيد الضيق يقترب الفرج، وعندما يشتد العسر يأتي اليسر، وما حلكة الليل إلاّ دلالة على بزوغ الفجر.
فانتظروا بإذنه تعالى وترقّبوا الفرج القريب.
انتهى!!