المرأة السودانية والانتخابات: جدلية الاستغلال والتمكين(2-2)
دراسة منشورة في موقع www dot .ikhtyar dot org
تصويت المرأة: مجرد صوت أم إرادة واعية؟
رغم المقاطعة الكبيرة لانتخابات أبريل 2015 في السودان، والتي رفضت المعارضة المشاركة فيها، بل ودشنت حملة ارحل بهدف حث المواطنين للامتناع عن التصويت، إلا أن النساء كن في قلب المشهد الانتخابي وشكلن أكبر نسب للمصوتين حسب المراقبين الإقليميين من الاتحاد الأفريقي والإعلام والمجتمع المدني المحلي.
كانت نساء المعارضة بالمقابل ينظمن فعاليات غالباً ما حاصرتها الأجهزة الأمنية، لحث النساء على الامتناع عن التصويت. ولكن في الجانب الآخر كانت نساء الحزب الحاكم يحشدن لدعم الانتخابات تحت شعار الانتخابات سباق تحسمه النساء. ونشرت بعض الصحف أن الحملة الانتخابية للبشير وزعت الآف الثياب النسائية (الزي القومى السوداني) على النساء في الولايات المختلفة. وأن تلك الثياب باللون الأخضر وتحمل شعار الشجرة وهو الرمز الانتخابي للحزب الحاكم. وقد قام النظام الحاكم بحملة قمع شديدة ضد المعارضين وخاصة النساء اللاتي كن، كما يبدو، الرهان الأكبر للنظام لإنجاح انتخاباته. وكان معظم السودانيين قرروا مقاطعتها لأنهم لم يروا جدوى لها، لأنها لم تكن ستأتي بأي جديد. فقد اختطفت الناشطة ساندرا فاروق كدودة التي كانت إحدى قادة الحملة الشبابية والنسوية لمقاطعة الانتخابات، وتعرضت أسرتها للترهيب وهى تعرضت للتعذيب والإهانة، وحين رفعت قضية ضد الأجهزة الأمنية تم تهديدها. كما أن تقارير أفادت عن اعتقال العشرات من النساء والرجال قبيل الانتخابات، ولكن بعض الناشطات خاصة في الولايات والمناطق الطرفية للخرطوم تعرضن لاعتداءات وتعذيب أثناء الاعتقال وصلت حد العنف الجنسي وتهديد الأسر بسبب مشاركتهن في الحملة لمقاطعة الانتخابات الأخيرة.
وفي مقابلة مع ناشطة من ولاية وسط السودان تفضل حجب اسمها لأسباب أمنية، أكدت أنها تعرضت للفصل من العمل بسبب نشاطها في حملة ارحل. وقالت (أن زميلاتي في العمل في وزارة التربية المحلية، في إحدى ولايات وسط السودان، تم تهديدهن بالفصل من العمل إذا لم يذهبن للتصويت). وفي مقابلة أخرى مع أحد المراقبين من منظمات المجتمع المدني المحلية في الانتخابات قال أن (المعلمات في المدارس في مناطق أم درمان الطرفية تم تهديدهن بالفصل من العمل وقطع المرتب إذا لم يذهبن للتصويت).
هذه الظاهرة بالتحديد متعلقة بأن نسبة النساء تضاهي نسبة الرجال الذين يعملون في سلك الخدمة المدنية الحكومية، حيث بلغت نسبتهن %65 من العاملين بالدولة. ونسبة لأن الرجال، في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية والمرتبات الضعيفة، يلجؤون إلى تكوين مصادر دخل من العمل الحر أو القطاع الخاص، إنهم لا يعتمدون مائة بالمائة على مرتبات الدولة. ورغم أن تهديدات وضغوط مماثلة أيضاً تعرضوا لها لممارسة التصويت، إلا أن استجابة النساء العاملات يبدو أنها كانت أقوى، مما يندرج أيضاً تحت طائلة ممارسة العنف الاقتصادي والتمييز ضد النساء بشكل جماعي.
وهنا نرى إحدى الأمثلة على تحول حق النساء في التصويت إلى وسيلة لاستغلالهن وممارسة العنف الاقتصادي ضدهن عبر التهديد بقطع مصادر رزقهن. وهذا مثال على مستوى المدن الكبرى، ويعكس أيضاً تغير وسائل النظام الحاكم في جذب المصوتين وخاصة النساء، ففي الانتخابات السابقة ارتبط التصويت بدفع الأموال أحياناً للنساء أو بوعود بالتوظيف أو الترقيات، خاصة في المدن. ففي بعض الأحيان كان الصوت يساوي 50-100 جنيه سوداني وهو ما يساوي 5-10 دولار حالياً، وهو ما حدث في مناطق وسط الخرطوم في 2010، حسب شهود عيان. لكن الوضع الاقتصادي السيئ الذي يمر به النظام نفسه ،جعله يلجأ كما يبدو للترهيب بدلًا عن الترغيب في هذه الانتخابات .
المرأة في الريف: التصويت الجماعي
أما على المستوى الريفي وفي القرى الأكثر بعداً عن الحضر، فإن نسب الأمية المرتفعة والفجوة الكبيرة في التعليم بين الجنسين ونسبة الأمية للنساء التي بلغت 50% في الحضر و58 % في الريف، والسيطرة الذكورية نزعت عن المرأة قدراً كبيراً من استقلاليتها. ورغم أن مساهمة النساء في الإنتاج في القطاع الزراعي تبلغ 87 % بالمقارنة ب 70 % للرجال، إلا أنها مساهمة غير مقدرة اقتصاديا أو اجتماعياً، ولم تسهم في تمكين المرأة الريفية في السودان. ويبدو ذلك جلياً في الفارق في الدخل بين النساء والرجال، حيث أن الأمم المتحدة تقدر دخل المرأة السنوي ب 1000 دولار مقابل 3000 للرجل حتى عام 2007.
يضاف إلى التركيبة الاجتماعية القبلية والتي تتبنى سيطرة ذكورية، سواءً في الإثنيات المسلمة أو غير المسلمة العربية أو غير العربية. وهو الأمر الذي زاد من الضغوط على النساء في الريف والذي لا يزال يقطنه 67% من سكان السودان. وهذه الفوارق بين الريف والحضر ظهرت جلياً في نسب التصويت في الولايات المختلفة في انتخابات 2015. حيث نجد أن التصويت في الولايات ذات الطابع الحضري كانت أقل كثافة منها في الولايات الريفية، فالتصويت في الخرطوم العاصمة القومية التي يقطنها قرابة 8 مليون نسمة، كان حوالي 34 % مقارنة ب 66% في ولاية كسلا في شرق السودان، والتي يعتمد سكانها على الرعي والزراعة وتنتشر فيها نسب عالية من الفقر وسوء التغذية ونسب عالية للأمية بين النساء.
ونجد أن السودان منذ بداية ممارسة العملية الانتخابية في خمسينيات القرن الماضي قد تبنى سياسة تركز على التوزيع الجغرافي للدوائر بشكل نسبي يركز على الحضر بدرجة أكبر من الريف بمفهوم التركيز على مناطق الوعي والتنمية. لكن في الانتخابات في السنوات العشر الماضية بالتحديد اعتمد نظام الدوائر الجغرافية الفردية ليمثل 60 % من المقاعد البرلمانية، في اتجاه سياسي معاكس يعود إلى الريف لكسب المزيد من الأصوات على أسس قبلية ودينية. وهو الأمر الذي أثر في نسب مشاركة المرأة في التصويت بشكل كبير، فكما لاحظت ناشطة سياسية (أن الأحزاب السياسية دعمت نظام الكوتة للنساء من منطلق جذب أصوات النساء ككتلة تصويتية)، وهذه النظرة عامة على جميع الأحزاب السياسية السودانية.
ولم يكن دعم وتحريك النساء للمشاركة الانتخابية بدافع تمكين النساء سياسياً بل من أجل استغلال قوتهن التصويتية في الانتخابات. فسيارات الحزب الحاكم كانت تجول القرى أثناء الانتخابات ويدعمها ممثلون لطرق صوفية أحياناً وقيادات قبلية. وتحملُ العربات بالنساء من داخل المنازل إلى مراكز التصويت، كما وصف الأمر شهود عيان. وهو مشهد متكرر عبر مدن وقرى السودان ذات الطابع الريفي والطائفي القبلي .
وتقول البروفيسور بلقيس بدري والأستاذة سامية النقر في ورقتهما حول الكوتة وأثرها على المشاركة السياسية للمرأة في السودان إن: الخطاب السياسي في دعم الكوتة اعتمد على أهمية دور المرأة في الأحزاب كمنتخب ودورها في دعم الحملات الانتخابية ودعم النساء للأحزاب. في ذات الورقة لاحظت الباحثتين أن النساء في خارج المدن لم يحصلن على التثقيف الانتخابي اللازم قبيل انتخابات 2010، التي شهدت حملات مكثفة من المجتمع المدني للتثقيف رغم ضيق الوقت.
أما الانتخابات الأخيرة فلم يسبقها أي إعداد أو تثقيف للنساء، ولذا كانت معرفتهن بكيفية ممارسة حقهن الانتخابي ضعيفة للغاية. الأمر الذي يؤثر سلباً على حقيقة المشاركة الكبيرة على مستوى التصويت، والذي يؤكد أيضاً مدى الانقطاع بين النخبة النسوية السياسية في المدن وعلى مستوى السلطة وخاصة النساء البرلمانيات عن قاعدتهن النسوية، حيث ذكرت الباحثتان بدري والنقر، أن النساء حتى في أحياء الخرطوم وبعض الأحياء الراقية أيضاً لم يكن يعرفن شيئاً عن أن للمرأة كوتة وربما عرف بعضهن أن للمرأة قائمة .
خاتمة:
أن هذه الحقائق والملاحظات تشير إلى الفجوة الكبيرة في البحوث الإحصائية والميدانية التي تتحرى عن نسب تصويت النساء وأنماط ذلك التصويت وأهدافه. وأن استغلال جهل النساء وأميتهن من قبل كافة القوى السياسية المعارضة والحاكمة لا يزال سبباً رئيسياً كما يبدو في مشاركة النساء العالية في الانتخابات سواءً كمصوتات أو حتى كمرشحات، وليس وعيهن السياسي أو مصالحهن التي يفرضها وضع التمييز والإقصاء الذي تعيشه نساء السودان. فكما لاحظ بحث النقر وبدري فإن بعض الأحزاب ضمنت النساء في قوائم الترشيح رغبة في ملء الكوتة وفي التواؤم مع التوجهات الدولية والالتزامات المفروضة من المجتمع الدولي. الأمر الذي يجعل حق النساء في الممارسة السياسية في إطار حق التصويت والترشح يتعرض لجدل كبير حول جدوى الزيادة الكمية التي قد تؤدي إلى استغلال النساء بدلًا عن تمكينهن. وفي المقابل فإن وجهة النظر التي تدفع بأهمية الكم ولو على المدى الطويل في تغيير النظرة للمرأة بوجود نساء لديهن مساحات حركة أكبر قد يكن قدوة لنساء أخريات، هو أمر مهم، ولكن قد يقلل منه أن ما شهده السودان على سبيل المثال من التمثيل النسوي الكبير عدديا منذ السبعينيات من القرن الماضي، لم يؤثر بالقدر الكافي في تغيير أنماط السيطرة الذكورية داخل الأحزاب السياسية والنظم الحاكمة وبالتالي داخل المجتمع، مما يجعل أي تطبيق لأي قوانين مهما كانت قوية أمراً صعباً في أرض الواقع، على افتراض تمكن النساء من الوصول إلى صك تلك القوانين من الأساس.
إلا انه في حالة السودان نجد أن الانقسام السياسي والفقر والقمع والاضطهاد العنصري على أساس الدين والإثنية إضافة إلى النزاعات المسلحة، قد زاد من تشتيت مجهودات مجموعات الحقوق النسوية وقدرتهن على التركيز على نيل الحقوق. في مقابل ذلك، التوجهات الإسلاموية للنظام الحاكم والتي تتلاقى في نقاط كثيرة مع توجهات المجتمع القبلي الطائفي التقليدي في وسط وشمال السودان والذي يعبر عن الإثنيات المسيطرة على السلطة في البلاد، قامت بصناعة مفاهيم حول النسوية وحقوق المرأة، متعصبة تجاه حقوق المرأة الشخصية ومنفتحة نسبياً تجاه أدوار النساء الاقتصادية والسياسية، متمثلة في السماح لللنساء بالعمل والتعليم والمشاركة في السياسة ولكن ضمن أطر محدودة تحافظ على النساء في الوظائف النمطية للأسرة، ولكنها تعزل النساء عن المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار والمشاركة في القضايا العامة والمصيرية، مثل حل النزاعات وصناعة السياسيات .
ونتج عن ذلك ضعف في قدرة النساء على تحقيق التغييرات الفعلية التي ترتقي بوضعهن، وتنهي أشكال التمييز النوعي وتهدم الثقافة الذكورية التي تحد من فرصهن في المساواة والتمكين. وبالنتيجة فإن المشاركة السياسية للمرأة في السودان، على الرغم من التقدم على مستوى الحقوق المنتزعة، إلا أن الممارسة الواقعية والمخرجات العملية والأهداف المحققة من تلك المشاركة لا تزال بعيدة عن الوصول بالنساء إلى تغيير حقيقي في آليات صنع القرار السياسي في البلاد. وهذا انعكاس طبيعي للعلاقة الجدلية بين القدرة على صناعة القوانين وبين تحويل تلك القوانين إلى واقع يحقق الهدف من ورائها. مما يؤكد على أهمية مواصلة النقاش البناء حول جدوى الكم وغض النظر عن الفعالية في عملية المشاركة السياسية للنساء. مع الأخذ في الاعتبار أهمية الفجوات الكبيرة بين النخب النسائية التي تقوم بتغيير القوانين وبين القواعد التي يفترض بها أن تكون المستفيد الأول من تلك التغييرات. فيبدو أن بناء حلقات الوصل بين فئات النساء المختلفة سياسياً أيديولوجياً وطبقياً مثل نساء الريف والمدن مثلاً، هو إحدى أهم الأسس لخلق الوعي اللازم لتحقيق تغييرات على الواقع، إضافة إلى تفعيل وإثراء الحوار البناء من أجل الاتفاق على أجندة نسوية موحدة. ومن دون هذه الأرضية المشتركة بين القوى النسوية، فإن إنهاء استغلال النساء، بل وتحويل إنجازاتهن في نيل الحقوق مثل حق الانتخاب إلى وسيلة لاضطهادهن سيكون أمراً مستحيلاً، وستظل النساء أداة لتحقيق مصالح المجتمع الأبوي الذكوري والذي يرسخ لسلطته، في ظل غياب وعي النساء وازدياد انقساماتهن .
المصدر:
www dot ikhtyar dot org