اعتذارٌ لهاشم صديق
محمد عبد الماجد
ليلة الأربعاء الماضية في مستشفى بشائر 2 بالحاج يوسف، العاشرة مساءً، فقدت ابني إبراهيم الذي خرج للحياة من بطن أمه ميتاً بعد أن كان يتحرّك داخل الأحشاء حتى أخر لحظة، ليخرج من الرحم الي القبر مباشرة. حسبته في البدء معترضاً على الاوضاع. ربما لم يكن يمتلك رغبة في حياتنا تلك التي يغلب عليها الرصاص بعد أن استعصم في بطن أمه أكثر من 9 شهر. وعندما خرج للحياة خرج ميتاً لأقبر في الساعات الأولي من صباح الأربعاء (قطعة مني) في مقابر القبة، وما بقي منّي غير (الجراح).
لم أجد للخروج من هذا الحُـزن إلّا أن أكتب عن هاشم صديق، فربما أداوي جرحي بالكلم، (واتحدى بالحرف الألم) بعد أن احتسبنا بحمد الله وفضله (إبراهيم). أنا سوف أهرب إلى الكتابة، مع كل الفراغات التي تركها لنا إبراهيم، لكن ترى كيف يكون حال أمه المكلومة؟ التي استبدلت وليدها بكمية من الأدوية والمضادات الحيوية، التي عادت بها من مستشفاها، بعد أن جهّزت له البزازة والمرايل والحفاضات ومكاناً قصيّاً في الغرفة وقبل ذلك في القلب. وكيف هو حال إخوته؟ بعد أن كانوا يظنون أن الذهاب إلى المستشفى يعني العودة بأخ جديد لنعود إليهم بجراحنا ونُحاصر بأسئلتهم التي لا تنتهي. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
كنا نتوكأ عليه. ظنا منّا ان يكون ابراهيم فرحة لنا تخرجنا من غياهب الحرب. العزاء في أن الخير يبقى دائما فيما اختاره الله.
ما عرفت شاعراً يعتز بكرامته وشخصيته أكثر من الشاعر هاشم صديق، الذي كان يمثل لنا حالة البهو الحاضرة في الموقف والأناقة والثقافة، رغم أنه من الكادحين. (اسمي هاشم، أمي آمنة، أبويا ميت وكان خضرجي)، يركب المواصلات ويمشي بين الناس راجلاً، (معاي في البص على أم درمان)، هو واحدٌ من الناس، الناطق الرسمي بملامحنا (عيونك ديل عيون أهلي / حنان زي نغمة في مقطع). ويسكن في بيت الجالوص (بيتنا من طين واقع مشرّم / ولما حال الطين يحنّن / نشقى شان يلقي الزبالة). لم أجد في دنيا الشقاء أسوأ من الشقاء من أجل حق (الزبالة)، إلّا أنّ هاشم صديق مع ذلك يعيش بعزة نفس ويحي حياة الملوك في كبرياءٍ، رفع بها من قدر الشعراء ليجعله ذلك الكبرياء مع تواضعه وبساطته يعيش في برج عاجي. برج من الأنفة والعزة والشموخ والتفرُّد، وهو القائل في جواب مسجل للبلد (خلي ألقاب الجرايد / من ممثّل واللّا شاعر / واللّا كاتب واللّا ناقد / كلّو زي يفط الدكاكين / والمطاعم / كلّو زينة وما هو شاهد).
هاشم صديق بهذه التعرفة التي تحكي التواضع كله (زول بحبك / وماكا خابرو / ياما لاقيتو وبسالمك / وداسّي منك / حال دواخلو / جوه فيها الموج يدافر وانت يا محبوبو / فاكر/ انو رايق / وقلبو شاغر) ولا عجب في هذا الإنكار وهو القائل (لا محتاج / عشان المس / وهج روحك / أمد إيدي / لا محتاج / عشان شوفتك / تشوف عيني / ملامحك حاضرة / وين بتروح / وهجك فيني ساكن الروح). وقبل ذلك كان قد أعلنها بذلك الوضوح والجرأة (حروف اسمك / وكت اشتاق وارحل ليك / واسرح في عسل عينيك / بتّحضني / قبل المس حرير إيديك / تأرجحني.. وتفرحني /.. وتخلِّيني / أدق صدري / وأقيف وسط البلد واهتف / بريدك يا صباح عمري).
هاشم صديق مع كل ذلك الإفصاح والشعر الذي شغل به الدنيا وأوقعه في المُعتقلات، قال: (يا ريتني لو أقدر أقول فيك الكلام الما نكتب)، ماذا يريد أن يقول هاشم صديق أكثر من ذلك وهو الذي قطع نفس خيل القصائد.
التقرير الرائع لموقع (العربية.نت) بوسم الزميل خالد فتحي جاء فيه بعد تداول إجلاء للشاعر هاشم صديق من منزله القصة كاملة (تفاصيل الحكاية الحزينة بدأت عند تداول مُرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، صوراً صادمة للشاعر هاشم صديق محمولاً على عربة يجرّها حصان كارو أثناء عملية إخلاء من مقر إقامته بحي بانت شرق بمدينة أم درمان إحدى المدن الثلاث المكوِّنة للعاصمة السودانية الخرطوم إلى ضاحية الثورة بالطرف الغربي للمدينة.
إذ قالت مصادر مُقرّبة لأسرة الشاعر هاشم صديق لـ العربية.نت، إنّ عملية الإخلاء جرت تحت ظروف بالغة التعقيد، حيث بحثوا لأكثر من عشرة أيام عن مركبة ذات ثلاثة أرجل توك توك لحمل الشاعر عليها، لأنّ قوات الدعم السريع لا تسمح بعبور المركبات العادية من المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني إلى مناطق سيطرتها، لكن كل مُحاولاتهم بتوفير مركبة باءت بالفشل، ولم يجدوا مَفرّاً من إخلاء الشاعر السوداني إلّا محمولاً على ظهر عربة كارو، خاصّة بعد أن صارت الحياة مستحيلة داخل الحي العريق، حيث زادت معدلات القصف المدفعي والصاروخي والجوي العنيف وتحوّلت إلى منطقة عمليات عسكرية.
وأضافت ذات المصادر لـالعربية.نت أنّ هاشم صديق وصل إلى مأمنه بسلامٍ في أحد المنازل بضاحية الثورة بمدينة أم درمان الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني.
هاشم صديق كتب يوماً وكأنه كان يتنبّأ بهذا الوضع ومواقع التواصل الاجتماعي تداول خروجه من منزله في عملية إجلاء (في بلدنا الحالة واحدة / المطار ياهو المحطّة / (والكوميت) يوم تبقى كارو / والزمن بروح أوانطة). وكتب عن أمونة يا خرطوم (وفي ساعة التعب والخوف تشيل خطواتي وامشي عديل). المُفارقة هنا في أنها هي التي تشيل خطواته وهو يمشي عديل!!، وخطوات هاشم هذه المرة يشيلها (الكارو) يا خرطوم وهاشم لا يتخلّى عن التحدي الذي يعرف به (يا بلد / هاك إيديا ووحاتك / انتي زادي وقصري والمال والكتابة / منّك اتعلمت أصبر / وكيف أحس ألم الغلابة / واتحدى بيك طعم الطريق / وشقا الزمن وكتين يضيق / واتملّي بيك / واحسّ بيك / واغنّي ليك من الصغر / حتى القبر / واحلف عليك / ترجف عروقي من المهابة).
وأنا أنظر لصورة (هاشم في الكارو) ونحن من جيل درس (هاشم في العيد)، واسترجع روشتة قديمة لهاشم صديق كتب فيها (كل الجروح بتروح إلّا التي في الروح) وجرح هاشم هنا جرحٌ في روح. هو جرحنا كلنا. جرح الوطن، وليس جرح هاشم صديق وحده.
مع هذه الجراح هاشم صديق هو صاحب الصك الذي ربما يكون وحيداً في الأغنية السودانية للضحك (اضحكي../ يغسل النغم المآسي / تهدأ أمواج القواسي / تلمس الناس المحنة / ويرجع الحب لي زمنّا / وتحضن السفن المراسي / اضحكي / تصحا الكهارب في الشوارع / ينكسر سور الموانع / تبدأ أعراس المزارع / والمصانع / وتوصل الناس الروائع / يا روائع).
أبو عركي البخيت يُردِّد كلمة (روائع) حتى إننا نكاد أن نحس بها وهي تلمس أقدامنا.
تأكيداً على إعلاء الفرح والدعوة له، عمل هاشم ونحن في هذه الأوضاع على أن يطمئن الشعب وهو يقول عبر تسجيل صوتي حسب العربية.نت (هاشم صديق أضاف بصوت واهن ظهر عليه الإعياء والتعب لست خائفاً أو حزيناً، وأود أن أشكر الذين اجتهدوا في إخلائي بهذه الطريقة. وفي كلمات مؤثرة، قال هاشم إنّ كل ما قدّمه خلال مسيرته الإبداعية كان محبة للشعب السوداني، وتعهّد بأن ينذر ما تبقى من عمره لإكمال مسيرته الإبداعية، داعياً لتوفير أدوات إنتاج تعين على ذلك، وكشف عن حُلمه بأن يتمكّن رغم الوهن النفسي والجسدي كتابة مسرحية جديدة وتقديم برامج جديدة، وتمنّـى أن تجد مجموعاته الشعرية القديمة وعددها 12، حظّها من إعادة النشر مرةً أخرى بعد أن نفدت كل الطبعات السابقة من الأسواق).
هذا هو هاشم صديق الذي نعرفه لا ينكسر ولا يتراجع، يحتفظ بشموخه في أصعب الأوقات، ولا يتخلّى عن الكبرياء الذي عُرف به وهو في عربة كارو (نحنا النقيف ونصنفّوا / بالفكر ما حقد الصغار / نحنا الشقينا عشان بلدنا / ونحنا يا دنيا الكبار / يوم المجازر / ما رجف رمش الشهيد / وقدّام عدد كل البنادق / كانوا صادحين بالنشيد).
وصورة هاشم وهو في (الكارو) حاضرةٌ الآن، وكلماته عن عشقه لأم درمان تكسب وتعلو ولا يعلو عليها (مرات أخاف / أضعف وأموت / تحييني بي نظرة أسف / ومرات أهاب صخر الدروب تلهبني بي كلمة شرف / صورتك دوام جلد الطريق / حبر الحروف / إيماني في كل المحكّات والظروف / هي الاسم.. ختم السفارة / التصاريح.. التسابيح / النياشين.. والأمارة).
هل الخروج بالكارو يحتاج إلى ختم السفارة أو تصريح من إدارة المرور؟!
عاش هاشم صديق نداً للحكومات، ومكافحاً بطشها وجبروتها (أذن الآذان / وحنصليك يا صبح الخلاص / حاضر / ونفتح دفتر الأحزان / من الأول وللآخر / ونتساءل: منو الربحان؟ / منو الخاسر؟ / منو الكاتل.. منو المكتول؟ / منو القدّام ضمير الدنيا / يوم الواقعة كان موصوم / وكان مسؤول؟)
هاشم صديق يُقدِّم مرافعته ضد الوضع الحالي قبل أكثر من 30 عاماً (منو العمّق جذور العزّ ة/ جوة الطين / وما هَمّاهُو يوم الهجرة للمجهول). وكلنا لا هاشم وحده نهاجر للمجهول.
كان وحده يمثل المعارضة (منو العسكر مع الطغيان / منو السّلّم صغارو الغول / منو اللمّع نعل كاتلنا / يوم كاتلنا كان مخبول)، وكان حزب هاشم صديق دائماً هو حزب ثورة الشعب. لا يوجد احتفاءٌ وتوثيقٌ لثورة أكتوبر، أعظم من كلمات (الملحمة) والتي جاءت باسم (قصة ثورة) التي تغنّى بها محمد الأمين، (لما الليل الظالم طوّل / وفجر النور من عينا اتحوّل / قلنا نعيد الماضي الأوّل / ماضي جدودنا الهزموا الباغي / وهدّوا قلاع الظلم الطاغي)، وكان قد شارك في أداء الملحمة خليل إسماعيل والدكتور عثمان مصطفى، وبهاء الدين أبو شلة وسمية حسن وأم بلينا السنوسي.
عندما قُدِّمت (الملحمة) على خشبة المسرح في الاحتفاء بعيد ثورة أكتوبر بعد 4 سنوات من ثورة أكتوبر، كان هاشم صديق يجلس في الصفوف الخلفية بين الجماهير، لأنّ عمره الصغير لم يكن يُؤهِّله للجلوس في المقدمة بين الوزراء والضيوف الكبار. كان هاشم صديق في حكم (المنسي) والجميع يقف إجلالاً لكلماته.
الآن هاشم صديق في المقدمة بعد أن أثرى حياتنا الأدبية شعراً ودراما وإعلاماً.
نسأل الله تعالى أن يحفظ هاشم صديق، وأن يكتب لنا عن تلك الأزمة بعد أن يخرج الوطن من وعكته تلك وهو أكثر قُوةً وتماسكاً.
اللهم احفظ السُّودان وأهله.
أبو إبراهيم