العرض المسرحى كفضاء للحوار
السر السيد
مدخل:
لقد بات من المسلمات الآن أن المسرح لا ينفصل عن الحياة اليومية التي يعيشها الناس ليس فقط في أنه يعبر عنها بالضرورة، وإنما أيضاً في أنه يتوسل بعضاً من تقنياتها في التعبير كما في طقوس الميلاد والموت وطرائق الاحتفالات الدينية والاجتماعية.
فالمتأمل لمسيرة المسرح منذ نشأته وإلى الآن، وبمختلف مدارسه وتياراته، يلمس هذا الارتباط الأصيل بحياة الناس اليومية، وبما تنهض عليه من أخيلة واستعارات تمكّن الإنسان من تأويل الواقع ومن ثم جعله قابلاً لأن يعاش. ولعل هذا ما استدعى المسرحي الشهير بيتر بروك أن يقول: (أستطيع أن أتخذ أية مساحة فارغة وأدعوها خشبة مسرح عارية فإذا سار إنسان عبر هذه المساحة الفارغة في حين يرغبه إنسان آخر فإن هذا كل ما هو ضروري كي يتحقق فعل من أفعال المسرح).
هذا يعني أن الكل يقوم بالتمثيل التطوعي والمشاهدة المجانية في آن واحد. لأن اليومي غني بمختلف السيناريوهات التي تقوم على التمويه والنفاق والكذب والتمثيل والصراع وغيره من العناصر ذات الطابع المسرحي ـ أنظر حسن اليوسفي ـ المسرح ومفارقاته، الطبعة الأولى، ص10، مطبعة سندي، مكناس، المغرب.
لذلك شكّل المسرح، أو فلنقل العرض المسرحي، حالة تواصل ثقافية نادرة بامتياز وبؤرة من بؤر التنوير والتعليم والامتاع وذلك لأنه يقوم على خصوصية تميزه عن سائر الفنون الأخرى. فالعرض المسرحي بالرغم من أنه يحكي حكاية من واقع حياة الناس المعيشة إلا أنه يبني واقعاً إفتراضياً يجسد من خلاله هذه الحكاية عبر لغات عديدة مختلفة ومتآزرة في نفس الوقت، قوامها الممثل والموسيقى والمؤثرات الضوئية والديكور والأزياء واللغة الملفوظة، مشكِّلاً من خلالها واقعاً يشبه واقع المتفرج ولا يشبهه. وبكلمة واحدة هي تمكين المتفرج من معايشة عالمين في لحظة واحدة عبر اتفاق ضمني وغير معلن بين العرض وجمهور المتفرجين، يتاح من خلاله أن يكون المتفرج شريكاً في العرض ومؤولاً له وفق ما تتيحه لغات العرض المتآزرة وما تحكمها من مرجعيات ذات صلة بثقافة المتفرج وواقعه المعيش.
الفن الحيّ:
يوصف المسرح بالفن الحيّ، ويقصد هنا أنه الفن الوحيد الذي يتصف بالحياة وذلك بسبب أنه يقدم من أناس حقيقيين أمام أناس حقيقيين. فاللحظة في العرض المسرحي، على سبيل المثال، لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى بنفس الطريقة. كما أن مشاعر المتفرجين وتفاعلهم لا يمكن أن يتكررا بنفس الطريقة أيضاً. فصفة الحياة هذه تجعل من المسرح أن يكون الفن الوحيد الذي تحدث ردود الفعل تجاهه مباشرة، وتجعل منه فناً تفاعلياً لا يكتمل إلا عبر تلك العلاقة الحوارية بين صنّاعه ومشاهديه، لذلك فهو فن الحوار وتبادل الأفكار والمشاعر والمواقف بجدارة.
فما العرض المسرحي إلا فضاء للحوار ليس بين المؤدين بعضهم مع بعض ولا بين المؤدين والمتفرجين فقط، وإنما بين المتفرجين أنفسهم. فسحر العرض المسرحي بوضوحه وغموضه يشعل الزمن على مستوييه الحقيقي (زمن العرض) والمتخيل (زمن حكاية العرض). ويجعل من المكان (مكان العرض الذي تدور فيه الاحداث فضاء اللعب) والمكان الذي يوجد فيه المتفرجين (الفضاء الدرامي) فضاء للحوار، حيث يتحول المتفرجين كما أشرنا إلى مشاركين في العرض وعنصراً من عناصره.
ولا غرابة في هذا، فالمسرح نفسه كفن ما هو إلا نتيجة من نتائج الحوار في مستوى من مستوياته، ونعني هنا الحوار الحضاري. فالمسرح الذي نشأ في بلاد الاغريق وفقاً لشروط محددة صار اليوم فناً عالمياً موطّناً في كل الثقافات والحضارات. كما أنه، وعبر مسيرته الطويلة، رفد من صيغة التبادل الثقافي. فلا توجد تجربة مسرحية في كل دول العالم إلا وعرفت الاقتباس من نصوص أخرى من ثقافات أخرى، وعرفت كذلك الإعداد والمعالجات النصية للكثير من النصوص من مختلف دول العالم.
هذه الصيغة التبادلية الثقافية جعلت من هذا الفن (غربّي النشأة) فناً عالمياً وأداة عالمية ساهمت وتساهم في التنوير والتعليم والامتاع عبر آلية الحوار تلك السمة الأساس الملازمة لفن المسرح. ولعل هذا ما جعل فن المسرح فناً حياً، فمن معاني الحوار (التجاوب والاستنطاق والدوران أي تقليب الأمر أو الفكرة على أكثر من وجه) - أنظر عبد الرحمن النحلاوي - التربية بالحوار ـ ص13- دار الفكر. ومن شروطه الاصغاء وطرح الفكرة واضحة واتاحة الفرصة للطرف أو الأطراف الأخرى للتعبير عن أفكارها والابتعاد عن الركاكة والمباشرة المخلة واستخدام الأسلوب الأمثل والأجمل لطرح الأفكار، وذلك بدعم الفكرة والأفكار بالاستعارات والمجازات وكل المحفزات التي تمنح الفكرة وضوحها وقوتها.
لعل كل هذا ما يجسده المسرح بإبداعية كبيرة، فالأفكار في المسرح لا تطرح إلا عبر تآزر لغات العرض المختلفة التي تشكل فضاء من الجمال والإبهار والكناية والاستعارة التي تدعم امكانية أن تصل الأفكار أو الفكرة والفكرة المناقضة لها بطريقة جميلة ومنطقية يحكمها تطور العرض المسرحي وعلاقاته. وبسبب هذا كان المسرح أنجع الوسائط الاتصالية لتعليم الحوار، خاصة وأن الحوار في المسرح لا بد وأن يصل إلى مبتغاه إما الحل وإما الأسئلة التي تفتح الآفاق للتفكير في الحل أو الحلول المناسبة.
هنا أجد من الملّح أن استعير هذه الفكرة المشرقة من كلمة اليوم العالمي للمسرح 27مارس 2011 والتي كتبتها الناشطة المسرحية اليوغندية جيسكا أ.كاهوا (يمكن للمسرح أن يشارك في الحياة السياسية على تعددها بين الشعوب بطرق مباشرة بسيطة، ولأنه شامل فيمكنه أن يقدم خبرة قادرة على تجاوز المفاهيم الخاطئة التي رسخت منذ زمان. بالإضافة إلى ذلك فالمسرح هو وسيلة ناجعة في دفع الأفكار التي نحملها جماعياً ونحن نستعد للقتال من أجلها عند ما تنتهك).
المسرح والحوار/ الحوار والمسرح:
علاقة المسرح بالحياة اليومية بأحزانها وأفراحها، بسلمها وحربها، بخيرها وشرها علاقة لا مناص منها، فقد قال شكسبير: (ما الحياة إلا مسرح كبير وما نحن إلا ممثلون). وقد قيل أيضاً (أعطني مسرحاً، أعطك أمة) أما علاقة الحوار بالحياة البشرية عبر مسيرتها الطويلة فلا يوجد بشر في مكان ما وزمان ما إلا وشكّل الحوار حاجة ماسة لهم. فهو الوسيلة الناجعة للتعارف بين الشعوب والأفراد والحضارات، وهو الوسيلة الامثل لتبادل الثقافات والأفكار بل هو الوسيلة الأمثل لإدارة المصالح وإدارة الحياة نفسها.
فقد أثبتت التجارب (أن البشر يستطيعون أن يصونوا كرامتهم وحقوقهم وحريتهم وأفكارهم وعقائدهم بالحوار أكثر من أي وسيلة أخرى). ولعل شاهدنا هنا هو تلك الخبرة التي كرستها الأديان السماوية، وفي طليعتها الإسلام، عن قيمة الحوار وضرورته في حفظ حياة الناس وحمايتها. فنظرة سريعة إلى القرآن الكريم ترينا مدى احتشاده بالحوار بين الله والشيطان والملائكة وبين الأنبياء وأقوامهم. فبدون الحوار، بغيابه أو تغييبه، لا يكون أمام الحقوق والكرامة والحرية بل لا يكون أمام الحياة نفسها الا الموت أو الانسحاب والتواري.
ولأن المسرح الآن ظاهرة عالمية تعرفه كل الثقافات والحضارات بلور نفسه عبر المثاقفة وتبادل الخبرات كأحد أقوى المشتركات بين الجنس البشري. ولأن من سماته الجماعية فهو الفن الوحيد الذي ينجز جماعياً على عكس الشعر والرواية والتشكيل على سبيل المثال. فالعرض المسرحي في الأخير ما هو إلا فعل يتميز بتعدد الأصوات وبتعدد وتنوع صانعيه، فهو بهذا يعد نتيجة مباشرة للحوار. ولأن من سماته أيضاً الشعبية فهو فن شعبي بجدارة لأنه يقدم أفكار الناس ومشاكلهم وهمومهم وأسئلتهم وصراعاتهم - فن يحاكي حياتهم ولكن على طريقته ـ بلغتهم وطرائقهم في الاحتفال رقصاً وغناءً وموسيقى وأداءً. وهو شعبي لأنه يستعيد معهم استعاراتهم وطقوسهم وأحلامهم ليحكي لهم حكاياتهم، ليس نيابة عنهم ولكن بمشاركتهم وتفاعلهم عبر ذلك الاتفاق الضمني غير المعلن مشكلاً بذلك فضاءاً من السحر ينهض على جدلية الوضوح والغموض، على جدلية عالمين واقعي وافتراضي، عبرهما يتحول إلى ساحة وفضاء للحوار. هذا الفضاء الذي لا يصنعه إلا فن المسرح فهو الإبن الشرعي للحوار بل هو فن الحوار بلا منازع.
* هذه المقالة استفادت كثيراً من كتاب المسرح ومفارقاته للدكتور حسن اليوسفى.