السودان.. حرب لا تستثني الصحافة
يوسف حمد
في العام 1903 عرف السوداينون صناعة الصحافة وتداول الصحف، لكن بعد 120 سنة فقط كان كل شيء له صلة بهذه الصناعة قد تهدم. وفي الواقع، بدأت هذه المهنة في التآكل منذ وقت مبكر بسبب تطاول سنوات الديكتاتوية في البلاد.
فما أن يطل انقلاب عسكري حتى يسارع أولا إلى إغلاق المؤسسات الصحفية. ومن بين الاعتقالات الكثيرة للفئات السياسية، ينال كذلك الصحفيون حظهم من الاعتقال والتضييق في العمل.
أخيرا، وبعد أكثر من 100 سنة من الشد والجذب، جاءت في أبريل الماضي حرب شعواء وواسعة التأثير اندلعت من أجل السلطة، وكان طرفاها قادة الجيش وقوات الدعم السريع، فوضعت النهاية الأليمة لما تبقى من صناعة هذه المهنة العريقة.
صاحبت الحرب عمليات تدمير شاسعة للبنى التحتية والمباني في العاصمة الخرطوم، وكانت عمليات تدمير غير مسبوقة، لم تشهد مثلها البلاد حتى في الحملات الانتقامية التي قادها الاستعمار ثأرا لمقتل إسماعيل باشا على يد السودانيين.
بدأت الحرب في الخرطوم ثم تمددت إلى مدن وأقاليم أخرى. ومن بين ملايين المدنيين الذين نزحوا من العاصمة أو غادروا إلى دول الجوار، كان هناك ما يقارب 500 صحفي كانوا يعملون في الصحف والقنوات التلفزيوينة والإذاعات، وربما يصل العدد إلى رقم مماثل لمن يعملون في المهن المجاورة لمهنة الصحافة.
وبالنتيجة لهذا النزوح واللجوء الكثيفين، أعلنت العاصمة الخرطوم مدينة خالية من الصحفيين وتعطل عمل المؤسسات الصحفية، وأخذت الحرب فيها تدور في الظلام، فسقطت الأخبار ودقة المعلومات من فرجات الميزان الصحفي الغائب، وباتت الظروف مواتية لعودة نمط من صناعة السيطرة الإعلامية، ملؤها الدعاية والتضليل والانحياز غير الموضوعي لأحد طرفي الحرب.
بلغ مجمل الانتهاكات خلال شهور الحرب، وحتى الآن، 239 حالة انتهاك، منها 7 حالات قتل للصحفيين أو ذويهم، و7 حالات إصابة بالرصاص، و14 حالة اعتقال، و12 حالة تهديد، و8 حالات إطلاق نار. وجرت كل هذه الانتهاكات في الخرطوم ودارفور وبقية الأقاليم.
وبسبب ذلك، توقفت أكثر من 20 صحيفة ورقية كانت تصدر من الخرطوم، إلى جانب توقف جميع الإذاعات والقنوات التلفزيوينة عن البث بسبب وقوعها في مرمى النيران، واتخذ المسلحون مباني بعضها بمثابة ثكنات عسكرية.
وفي وقت مبكر من شهور الحرب أظهرت القوات الحاملة للسلاح (غالبيتهم من الدعم السريع) استهدافا لمنازل الصحفيين والصحفيات في مختلف مناطق العاصمة ما أثار المخاوف بأن هناك خطة ممنهجة ضدهم وتستهدف ممتلكاتهم، وهذا ما دفعهم للنزوح.
وعمليا، تعرض نحو 70 منزلا للمداهمة والاعتداءات في شهور مايو ويونيو ويوليو وأغسطس، أشار إليها تقرير أعدته نقابة الصحفيين السودانيين بخصوص أوضاع الحريات الصحفية في السودان. وذكر التقرير أن الانتهاكات على الصحفيين والمؤسسات الصحفية مثلت عائقا لممارسة المهنة بالشكل الذي يضمن استقلاليتها ونزاهتها.
وفي الواقع، شهدت عمليات الانتهاك ضد الإعلام والصحافة المستقلة تزايدا مستمرا في السودان، الأمر الذي عرض أوضاع الصحافة إلى التراجع. واتسمت الفترة قبل اندلاع الحرب، على سبيل المثال، بزيادة الرقابة الحكومية وتسلط الأجهزة النظامية على الصحفيين ووسائل الإعلام، عبر بلاغات نشر يتم فتحها في مواجهة الصحفيين والصحف، وكان معظمها بدافع التشفي.
وقالت نقابة الصحفيين إن منسوبيها تعرضوا إلى (55) حالة انتهاك قبل اندلاع الحرب، منها حالات متكررة للصحفي الواحد نفسه. إلى جانب أكثر من 20 إصابة بعبوات الغاز المسيل للدموع واعتقالات واختطاف وبلاغات كيدية في مواجهة الصحفيين إبان تغطيتهم للمواكب السلمية المناهضة لانقلاب 25 أكتوبر.
اقتصاديا، لم يتم سداد رواتب 1166 عامل وعاملة بالهيئة العامة للإذاعة والتلفذيون القومي ونحو 153 متعاونا ومتعاونة كانوا يعملون بالهيئة التي توقفت عن العمل منذ 15 أبريل؛ إذ أصبحت محتلة بواسطة قوات الدعم السريع. وإلى جانب التلفزيون الرسمي هناك صحف وإذاعات وقنوات لم تتمكن من سداد رواتب منسوبيها، ومؤسسات صحفية أخرى انهت خدمة العاملين بها أو منحت العاملين إجازة مفتوحة بدون راتب.