25/09/2023

كيف تصلنا معلومات حرب الخرطوم؟

يوسف حمد

إبان عملي الاحترافي بمهنة الصحافة، سنحت لي فرصة لأحاضر بعض الصحفيين والصحفيات المتدربين. كان ذلك ضمن ورشة محضورة ذات صلة بإعداد الصحفيين لتغطية الأحداث في مناطق النزاع، ويومها لم تكن الخرطوم ضمن هذه المناطق، لكنها الآن منطقة نزاع كبيرة بجهود جنرالين يتحاربان حول الاستحواذ على السلطة.

كانت مهمتي في تلك الورشة التي سبقت قيام الحرب هي مساعدة المتدربين على الانبتاه لـ (دقة المعلومة واختيار المفردة والتعبير المناسب عند التحرير والكتابة للصحافة)، وأن أساعدهم، كذلك، على فتح النقاش على أسئلة هذه المهمة الصحفية الجسيمة: النقل الموضوعي الدقيق.

هذه المسؤولية دفعتني لارتجال اختبار عملي لهذا الغرض، وكان يتعين على المتدربين، وكانوا نحو عشرين متدربا، تطبيقه حالا بحال. كان الاختبار سهلا ومباشرا، وهو أن ينقل المتدرب عني 10 كلمات فقط إلى جاره داخل المحاضرة. فقلت للمتدرب الأول في أذنه العبارات التالية: لن توقع قوى الحرية والتغيير أي اتفاقية مع المكون العسكري.

وفي حقيقة الأمر بنيت جملة الاختبار من ثنايا وتلافيف الأحداث السياسية وحالة الشد والجذب التي أعقبت انقلاب قائد الجيش وقائد الدعم السريع على الوثيقة الدستورية وحكومة الدكتور عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021.

بدأ المتدربون في نقل العبارات. كل يستلمها ثم يهمس بها إلى جاره، وهكذا. وحين انتهوا إلى المتدرب الأخير في نحو 3 إلى 5 دقائق، طلبت منه أن يحول الكلام من الصيغة المسموعة التي وصلته إلى صيغة مكتوبة ويدونها على السبورة أمامنا، ليرى الجميع كيف وصلت الكلمات العشر، فكتب (غدا سينفذ العسكريون انقلابا).

في الواقع، فعل المكون العسكري أكثر مما هو انقلاب، لقد اشعلوا حربا كاملة لم يكن ينتظرها أحد. لكن مع ذلك، فقد كانت دقة النقل فضيحة كبيرة على المتدربين، وحاولوا التغطية عليها بالضحك على أنفسهم. ضحكوا كثيرا لكونهم فشلوا في نقل كلمات معدودة، في جماعة محدودة، خلال دقائق محدودة لم يخضعوا فيها لأي تأثير خارجي يذكر.

ذلك الضحك الناتج عن الخجل هو ما حملني للاطمئنان على أن روح الصحافة قد لامست أولئك المتدربين في ذلك اليوم، لأن الصحفي، في المقام الأول، هو الشخص الذي يخجل من نفسه إذا تقاعس أو فشل في مساعدة الناس على فهم الواقع. وبالطبع، لا مجال هنا للذين يتعمدون التضليل عن سوء قصد.

مثل هذه النقيصة، وغيرها من المهام، هي ما قامت من أجله مهنة الصحافة بتقاليدها وأخلاقياتها. صحيح، لقد أحدث الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي (ثورة في عرض المعلومات) وأتاحت للجميع أن يكتب ويدوّن كما يشاء، وهذا ما يلبي، في الظاهر فقط، حاجة الناس للأخبار والمعلومات بكثافة وسرعة، لكن الواقع غير ذلك، وهو ما يترك مساحة واسعة للصحفي، وهذا بالذات ما فقده مجتمعنا في واقع الحرب المدمرة الجارية منذ أبريل الماضي.

فمع اندلاع الحرب لم تعد الصحافة تتحرى الدقة وتتوخى المسؤولية الأخلاقية، فقد دُمّرت البيئة الصحفية ولجأ الصحفيون وفروا طلبا للنجاة، وبات نقل المعلومات والبيانات والرؤى حول الحرب غارق في لجة من الدعاية والتضليل والرغبات، وسوء القصد في مرات قليلة. ومع الحرب، رويدا رويدا، أخذ التضليل في الاندفاع إلى الأمام، ولا يحده شيء.

معرض الصور