ثنائية عثمان حسين ومهند الطاهر
محمد عبد الماجد
أخطر من الحرب في حد ذاتها وفي حدود اشتباكاتها (النارية) ومخلفاتها (الحربية)، و(جراحاتها) العينية، أن تصنع الحرب لها (دولة)، وأن يكون لها (كيان) و(حكومة) في ظل تبادل (الحكومات) المُعلن بين الطرفين بعد تبادل (النيران).
استمرارية الحرب وطول أمدها يعني التطبع معها والتعايش مع فرضياتها الأليمة والموجعة بصورة (سلمية).
الحرب التي يدور رحاها بين الجيش والدعم السريع صنعت لها (سياسة) و(ثقافة) و(لغة) و(إعلام) و(دبلوماسية) و(دعاة)، وأصبح لها تاريخ وتراث!
وأخطر من ذلك أنها صنعت لها (اقتصاداً)، وأصبحت للحرب أسواقا عالمية تستورد منها الأسلحة، وأسواقا داخلية تُعرض فيها السلع المسروقة، حيث (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت)، وقد عُرفت تلك الأسواق بأسواق (دقلو) وتنتشر في العاصمة بصورة مخيفة وتقدم بضاعاتها وعملاتها الخاصة.
أقارن بين ما كان يُعرض في ميدان الاعتصام (عندك خُت.. ما عندك شيل)، وبين ما يُعرض في الأسواق الآن من سلع وبضائع مسروقة، فأقول شتّانَ ما بين ما تفرزه الثورة وما تفرزه الحرب. وقتها كانت لغة الناس (يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور)، عكس اللغة التي تسود الآن وتمور بالكراهية والعُنصرية والبغضاء.
مات شباب الثورة الغض عندما كانوا حراساً للتروس والحجارة والشوارع، في الوقت الذي أجبرت الحرب، الأهالي على الهروب من ديارهم وترك ممتلكاتهم وأموالهم.
الفرق شاسعٌ بين ثورة كان الشهيد فيها يُرد له اعتباره، ويظل أيقونة يتداول الناس قصته واسمه وصوره، وبين من تُسقطهم الحرب الآن سهواً أو عمداً، فلا يُعلن عنهم ولا نعرف عنهم شيئاً!
إلى الآن لا توجد إحصائية دقيقة للقتلى، وكل طرف يخفي عدد قتلاه ويتستّر عليهم.
المستفيدون من هذه الحرب في كل يوم يتكاثرون ويتعاظمون ويقوى عودهم وتيارهم على تيار إيقاف الحرب. هذا التصاعُـد (الرأسي) للحرب أخطر من التمدُّد (الأفقي) المعني بالعاصمة والقيادة العامة والقصر الجمهوري.
الحرب الدائرة الآن تدور في قلوب السُّودانيين. والاحتلال الحقيقي ليس فقط في المنازل والمستشفيات، وإنما في الأفئدة والعقول.
لا تتآلفوا مع هذه الحرب ولا تجعلوا لها أدباً أو قدسية تصل لمرحلة رفض إيقافها.
صوت (الرصاص) يجب ألا يكون أعلى من صوت (لا للحرب).
بعد أيام قليلة سوف تدخل الحرب شهرها السابع. والرقعة (الزمنية) للحرب أخطر من الرقعة (المكانية).
الخرطوم وهي العاصمة القومية فقدت أمنها وأمانها، وأصبح السّلب والنهب هو الطابع السائد فيها. المنازل لم تُفرغ فقط من سكانها. أُفرغت أيضاً من عفشها وأثاثاتها.
الآن نحن في مرحلة نهب الأسِرّة والمراتب. بعد أن نُهبت الأجهزة الكهربائية، وقبل ذلك نهب الذهب والمجوهرات والأموال النقدية. أرجو أن لا نصل لمرحلة نشاهد فيها نهب الملابس والوسادات والملايات. مرحلة (العِدّة) تجاوزناها.
الذين يعتقدون أنّ هذه الأمور لا حساب فيها هُـم واهِمُون. سوف يُحاسبون ولو بعد حين.
السلام لا يعني عفا الله عما سلف. إن فلتوا من حساب الدنيا لن يفلتوا من حساب الآخرة، وإن كان الذعر عليهم وهم بأسلحتهم ومدافعهم أقسى حساب يمكن أن يقع عليهم.
كان (لوكيوس أنّايوس سينيك) الذي كان يعرف أيضاً باسم (سينيكا)، وهو فيلسوف وخطيب وكاتب مسرحي روماني، يقول كلاماً أقرب للحقيقة العلمية (أن تُسبِّب الخوف للآخرين يعني أن تكون خائفاً بقية حياتك. لم يسبق أن استطاع أحدٌ بث الذعر في قلوب الناس مع احتفاظه بسلامه الداخلي).
السلام الداخلي أهم من السلام بمفهومه المعروف وأبعاده السياسية المُعتادة، وهؤلاء فقدوا سلامهم الداخلي.
لا تعتقدوا أنّ الذين يُسبِّبون الذعر للناس في السودان الآن يعيشون حياتهم بصورة طبيعية. لا تخدعكم تلك العنتريات ودوي الانفجارات. ما هذه الانفجارات إلّا إحساسٌ بالخوف والذعر. هؤلاء الذين تسبّبوا في موت الناس وفي تشريدهم ومُعاناتهم وفقد ممتلكاتهم، يعيشون أوضاعاً أسوأ من أولئك الذين وقع عليهم الضرر المباشر.
أحياناً الوجع غير المُباشر أو غير المنظور أعظم من الوجع المُباشر! الوجع (المادي) أو (العيني) يُمكن التعامُل معه، لكن الوجع (المعنوي) هو الأخطر، وهو الذي يمتد أثره لعهود قادمة وأجيال جديدة.
الذي يفقد (إنسانيته) في هذه الحرب هو الخاسر الأكبر فيها. لا تحسبوا الخسارات فقط في المال والأنفس، هناك خسائر أخرى في الضمائر والأخلاقيات والمواقف، وهناك حساب آخر، حتى وإن فلتوا من حساب الدنيا.
لا أعرف كيف ينوم أولئك وهم تسبّبوا في تشريد الشعب وفي أوجاع الوطن؟
المُتضرِّر الأول من هذه الحرب سوف يكون هو من تسـبّب فيها. وهو من عمل على إشعالها واستمراريتها.
كان الأستاذ فتحي الضو في حوار سابق لنا معه يرجع للعام ٢٠١٠م، يحكي لنا عن أوضاع عاشها في الصومال وهي تُعاني من ويلات الحروب. قال لنا فتحي الضو إنّهم كانوا إذا أرادوا أن يُوقفوا الحرب والاشتباك بين قبيلة وأخرى، كانوا يشغِّلون إحدى أغنيات وردي في الأسواق والميادين العامة عبر مكبر الصوت فتتوقف الاشتباكات وتهدأ الأوضاع.
هؤلاء الذين ألقوا بنا إلى تلك التهلكة، ألم يسمعوا وردي يغني (الطير المهاجر)؟ (وكان تعب منك جناح في السرعة زيد / في بلدنا ترتاح في الدليب / ضل الدليب أريح سكن). ألم يسمعوا وردي أو يشاهدوه وهو ينزل ويطلع من أجل أن يأخذ نَفَسَاً عميقاً ويخرج دُرراً من عمق حنجرته (والعمر زادت غلاوتو معاك صالحني زمان)؟
لو استمعوا لـ (خاف من الله) بصوت وردي (تسجيل الإذاعة) لتوقّفت هذه الحرب.
من بين قناعاتي الراسخة أنه كان في الإمكان أن نستخرج من صوت صلاح بن البادية أضعاف ما نستخرجه من كهرباء سد مروي.
دائماً في قناعاتي أنّ صوت صلاح بن البادية فيه شئٌ من (التداوي بالأعشاب). كما إنْي أزعم أنّ صوت عبد العزيز محمد داؤود نسخة وحيدة في العالم. لو كان عبد العزيز محمد داؤود (روسياً) لوصلوا القمر بصوته. صوت أبو داؤود (مركبة فضائية).
في صوت عائشة الفلاتية (عذوبة) جعلت (سمسم القضارف) يصل طرباً لمرحلة (العنب).
بلد قـدّمت النعام آدم ليغني للزول الوسيم، وقدّمت صديق عباس ليكتب عبر الأثير، لا أعرف كيف يكون للرصاصة حيِّزٍ فيها؟
تنقا كان يعكسها بـ (17) لغة. وهيثم مصطفى كان يمررها بـ (جواز دبلوماسي)، وأنور الشعلة كانت الكرة في قدمه مثل (الترزي يوم الوقفة).
كنت أحلم أن تكون هنالك ثنائية بين عثمان حسين ومهند الطاهر، مثل ثنائية عثمان حسين مع حسين بازرعة. ففي صوت عثمان حسين (رشاقة) مهند الطاهر، وفي أهداف مهند الطاهر (شَجٌـنٌ).
كان عمي وهو رجلٌ لا يسمع الأغاني عندما يسمع عثمان حسين يغني (قصتنا). يقول عليّ الطلاق الزول دا قَلَبَ (الهوبة) في الحِتّـة دي (كل طائر مرتحل عبر البحر حمّلته أشواقي الدفيقة، ليك يا حبيبي للوطن لترابه لشطآنه للدار الوريقة).
في أغنيات خليل إسماعيل قدرٌ من أمنياتنا الخاصّة (بكرة يا قلبي الحزين تلقى السعادة) و(وفي مسيرك يا الهبيب سلّمي لّي على الحبيب والمهم تلقيه طيب).
الطيب عبد الله غنى (ليل الفرح) وغنى (أيّامي الخوالي) وغنى (السنين)، وبعد كل ذلك كان الطيب عبد الله يقول (أيوحشني الزمان وأنت أنسي). ولم يكتفِ بتلك الساعة البيولوجية (الغنائية) وهو يغني لابن زيدون (وَلَو أَنَّ الزَمانَ أَطاعَ حُكمي / فَدَيتُكَ مِن مَكارِهِهِ بِنَفسي). لا أدري ماذا يُريد أن يفعل الطيب عبد الله بالزمان أكثر من ذلك؟ فعلاً والله مسكينة المحبة.
في ذات السِّياق (الزمني) غنى عبد الرحمن عبد الله (أذنك لحظة واحدة)، وغنى محمد ميرغني (في اللحظة ديك اشتقت ليك)، وغنى محمد النصري (والسنين يا عابرة توسع لما نحسبها بالثواني)، وغنى مصطفى سيد أحمد في قمر الزمان (مرسوم على وش الثواني مظللا)، وغنى إبراهيم عوض (لو مشتاق حقيقة ما بتغيب دقيقة)، وغنى حسين شندي (الساعة كم)؟ وغنى خليل إسماعيل (قبال ميعادنا بي ساعتين)، وغنى زيدان إبراهيم (في الليلة ديك)، وغنى نجم الدين الفاضل (ليالي الانس لذاذ بلحيل)، وغنى سيد خليفة في النهاية (يوم في يوم غريب)، وغنى أحمد المصطفى (أيام بتمر ووراها ليالي)، وغنى هاشم ميرغني (أسبوع تمام)، وغنى عيسى بروي (ليك أسبوعين ما جيتنا)، وغنى حمد الريح (شهر شهرين والثالث مرة)، والحرب توشك من أن تكمل شهرها السادس!
نخشى أن يدخل التقويم الحربي إلى رزنامة محمد الأمين الغنائية (أربع سنين)، و(خمس سنين).
لكن نثق ونؤمن ان النهاية اقتربت وان شهر اكتوبر سوف يأتي ان شاء الله بالفرج والخلاص.
اللهم احفظ السودان واهله.