عبد الخالق محجوب.. جوانب مخفية فى حياة راشد / 1 ـ 2
صديق محيسي
ثلاثة حلقات نشرتها فى صحيفة الميدان عن جوانب مخفية فى حياة الشهيد المفكر عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعى. وغير السيرة الذاتية التى يعرفها عنه الناس كزعيم سياسى له مجاهداته فى الحركة الوطنية، ومواقفه من قضايا التغيير فى السودان من منظوره الماركسى، ثم صراعاته الفكرية داخل وخارج حزبه، فأن لأستاذنا كما يطلق عليه صديقنا الباحث عبد الله على ابراهيم صفات أخرى رصدتها أنا كصحافى كان أحد مصادرى الخبرية فى عصر الستينات.
وما جعلنى أنحو هذا المنحى هو أن الكثيريين من الناس كانوا، ولا يزال بعضهم، ينظر للرجل كأنه شيطان رسالته الوحيدة هو نشر الكفر والإلحاد بين الناس، وتحريض المسلمين ترك دينهم. هذا الفهم البائر زاد من إشاعته الإخوان المسلمون الذين ما غيروا هذا السلاح حتى وهم فى (كوشة) التاريخ، اذ لا يزالون يستخدمون هذه الشماعة لكل من يخالفهم الرأى. بل وزادوا عليها العلمانية لتصبح رديف الشيوعية. غير أن إعصار ثورة سبتمبر اقتلعهم من جذورهم، وأزال أقنعتهم ليظهروا كلصوص ومحترفين لم يشهد السودان لهم مثيلا. فأستشهد عبد الخالق ولم يترك على منضدة مدير السجن سوى خاتم زواجه وساعته، موصيا تسليمها لزوجته بينما مات زعيمهم مخلفا لنا كارثة كبرى احتار دهاقنة السياسة فى وصفها.
فى كتابه الديمقرطية فى الميزان، قال محمد احمد محجوب إنتهى عهد التسامح فى السودان بأغتيال عبد الخالق محجوب. وكان المحجوب يشير إلى التسامح الذى عرف به السودانيون كثقافة فى بنيانهم الإنسانى عبر التاريخ. وبهذه السطور والموضوع عبد الخالق السودانى وسكرتير الحزب الشيوعى السودانى، كنت متحدثا ضمن مجموعة من الباحثين فى ذكراه التسعين أقامها بيت التراث الذى يديره الصديق إسماعيل الفحيل بالخرطوم اثنين فى 23/09/2020. ولما كان معظم المتحدثين تناولوا سياسيا عبد الخالق محجوب كل من من منظوره، رأيت أن احكي تجربتى الشخصية كصحافى مع الرجل فيها بعض من سيرته الاجتماعية مثل علاقاته مع الصحفيين على هامش السياسة قريب منها وليس داخلها كلية.
فى صحيفة السودان الجديد ستينات القرن الماضى، كان عبد الخالق محجوب أحد مصادري الإخبارية حين يكون هناك حدث سياسى يشغل الساحة يحتاج الى تعليق الحزب. وكنت أحرص على الإتصال به دائما بعد الخامسة مساء حسب طلبه.
لم يكن يتضايق أبدا من الأسئلة التى أوجهها له حتى ولو خالطت الإشاعة بعضها. كان ذلك تعامله مع كل الصحفيين، بما فيهم الصحفيين الحزبيين الذين كانوا ينشرون اخبارا غير حقيقية ضد الحزب الشيوعى، فلا يصدهم حين (يطرقون) سماعة هاتفه أو يذهبون إليه فى مكتبه أو منزله. كان الرجل مفكرا متواضعا وزعيما ديمقراطيا حقيقيا صاحب صدر واسع فى تقبل الأراء المخالفة لأفكاره.
فى ستينات القرن الماضى أيضا، وفى الأمسيات التى كان يقيمها رئيس الوزراء محمد أحمد المحجوب فى منزله بالخرطوم اثنين، حين يزور البلاد ضيوف من مصر ولبنان فى المناسبات الوطنية يدعو لها أصدقاءه، وهم خليط من الشعراء والكتاب المصريون المتنافرون، مثل صالح جودت وكامل الشناوى واحسان عبد القدوس. ثم نقيضهم تماما لطفى الخولى وأحمد حمروش وصلاح حافظ وعبد الرحمن الشرقاوى وحسين فهمى. شعراء وكتاب يمينيون بجانب يساريين يتحلقون حول المحجوب الشاعر الرومانسى نجم الحفل، وطاووس الجلسة صاحب الدعوة. لا حديث هنا فى حضرته غير الشعر، فالشعر وحدة هو الخيط السحرى الذى يربط بين المدعويين.
كان المحجوب يحرص دائما فى مثل هذه المناسبات أن يكون عبد الخالق بين المدوعويين المحليين. جمال محمد أحمد، توفيق صالح جبريل، محمد المهدى المجذوب. ويقول فى ذلك للصحافة فى اليوم الثانى إنه يعرف لغة صالح جودت وكامل الشناوى وإحسان عبد القدوس، أما لغة الأصدقاء الأعداء يملك ناصيتها عبد الخالق محجوب. وهذا هو التسامح الذى أشار إليه المحجوب فى كتابه الديمقراطية فى الميزان.
طوال تلك الأمسيات كان الشعر هو سيد الموقف، وكان المحجوب (ملك الطيور) الجالس على عرش الإبداع. هو من يحوز على خيوط الضوء، وكان الضيوف كلهم آذان له وهو يلقى قصائده بصوت جهورى تشوبه خشونة ناعمة. يتنقل بين مفرداته الراقصة محلقا فى سماوات الخيال. قصائد مليئة بالشجن دافقة بالصبابات من لبنان والمغرب وايطاليا.
وها هو عبد الخالق يحدثهم عن الأدب فى عصر العلم وروائع الأدب الروسى ديستفوسكى وتشيخوف وجوركى. ويشرح لهم كيف أن الحزب الشيوعى رعا المواهب الآدبية وفّرغها للتأليف والنشر. وينتقل النقاش مع الرفاق إلى ذكريات الكفاح المشترك فى حدتو، وسجون ابراهيم عبد الهادى وصلاح بشرى الذى استشهد فى السجون المصرية. تلك كانت ليال يقيمها المحجوب تسقط فيها الصراعات السياسية التى كانت تنتهى عند أبواب البرلمان.
التسامح الذى تحدث عنه المحجوب يسوقنا إلى مشهد غريب مدهش، ولكن كنت أجد له تفسيرا من منظور الصحفى الذى يحلل الأحداث والمواقف. فمن كان يصدق أن عبد الخالق محجوب كانت تربطة علاقة صداقة قوية بمحمد مكى محمد صاحب ورئيس تحرير جريدة الناس؟ تلك الجريدة التى لم يكن يخلو عدد من أعدادها وإلا فى صدره أخبار ضد الشيوعيين والحزب الشيوعى. وفى كثير من الأحيان ضد عبد الخالق نفسه الذى اتهمه مكى ذات مرة فى خبر رئيسى إنه شريك فى مصنع الكبريت ابو مفتاح الذى ينتج فى تشيكوسلوفاكيا. وأن المصنع هو الذى يزود الحزب الشيوعى بالمال.
لقد رأيت بأم عينى وأنا صحفى بها لعدة شهور عبد الخالق يدخل مكتب محمد مكي ويقضى معه ساعات وساعات. وتتناهى إلى أذني ضحكاتهما، كأنما المضيف عضو فى الحزب الشيوعى والضيف عضو فى حزب الأمة وليس زعيما للحزب الشيوعى.
كان محمد مكى وثيق الصلة بالسفارة الآمريكية بالخرطوم، ولم يكن يخبيء هذه العلاقة. فجريدته كانت تعيد نشر تقارير مطولة نقلا عن مجلة المجال التابعة للاستخبارات الأمريكية ضد الثورة الفيتامية وضد الجبهة الشعبية، التي كانت تقود الكفاح المسلح لإخراج الإنجليز من الشطرالجنوبى لليمن. يعني ان (مكي الناس) كما كان يطلق عليه فى الوسط الصحفى كان يسّخر جريدته لخدمة السياسة الامريكية فى السودان. أما زيارات عبدالخالق له من وقت لآخر هدفها المسامرة التى تحمل بين طياتها آخر أخبار المجتمع السيا سى. إذ كان مكى معروفا بمخبر الليالى الحمراء يشارك فيها وزراء ووكلاء وزارات وسياسيون من مختلف المشارب. يتسقّط فيها آخر الأخبار، ويتصيّد الأسرار ماخفى منها وما تكشفه بنت الحان. فكانت تلك مادة هامة بالنسبة له يبتز بها من يريد ان يبتزه، ويشيد بها بمن يحبه ويستلطفه.
كان الفندق الكبير (القراند اوتيل) هو الوحيد فى الخرطوم متنفس كبار الصحفيين وبرجوازية الخدمة المدنية ورجال الأعمال. تلتقى فيه نخب الخرطوم ليلا، ترّوح فيه عن نفسها عناء نهار الصيف الغائط، ويلاحق فيه الصحفيون آخر الأخبار عندما تكون هناك قضية حولها صراع بين القوى السياسية.
كان عبد الخالق كثير التردد على محمد مكى حين أثيرت فى ستينات القرن الماضي ما اطلقت عليها الصحافة (فضيحة محطة الأقمار الصناعية) التى كانت ستشيدها الولايات المتحدة الأمريكية فى السودان. وأسند أمرها لوزير المواصلات زمانئذ محمد عبد الجواد من حزب الشعب الديمقراطى، فجرى اتهامه بالفساد. وكانت تلك بالفعل قضية فساد كبيرة بمقاييس ذلك الزمان تناولتها الصحف كحدث سياسى هام. أما تكرار زيارات عبد الخالق لـ (مكي الناس) كانت لكون الشيوعيين كانوا يعارضون هذه المحطة بشدة بأعتبارها محطة تجسس أمريكية. وكون مكي على صلة بالشركة الأمريكية المنفذة، ومن هنا نفهم لماذا كان عبد الخالق يزور الرجل.
جئنا إلى (السودان الجديد). الراحل محمود مدنى من جريدة الصحافة وانا من الأيام، لنجد صديقنا الصحفى الكبير يحى العوض مديرا لتحريرها. فقررنا فورا أن نحول سياسة الجريدة من اليمين إلى اليسار. وكانت ضربة البداية أن ساندنا الدكتور عمر عثمان، عميد كلية الأقتصاد، مرشح اليسار ضد الدكتور عبد الله الطيب عميد كلية الأداب مرشح اليمين أو هكذا قيل فى ذلك الزمان.
كان الصراع على أشده على منصب مدير جامعة الخرطوم بعد رحيل مديرها السابق البروفسور النذير دفع الله. كتبنا كلنا ضد عبد الله الطيب بوصفه شاعرا من (العصر الجاهلي، ويمينيا رجعيا أقرب إلى الإخوان المسلمين). كان الدكتور عبد الله الطيب يخوض معركته على صفحات الصحف، وينشر قصائد ينال فيها من خصمه بشراسة.
كانت أشهر تلك القصائد التي أحدثت ردود فعل في الأوساط الأدبية والثقافية وحتى السياسية قصيدته (الخميس الزاحف) التي يتوعد فيها خصمه ويمني نفسه بالانتصار. لم يكن الدكتور عمر عثمان يملك هذه الوسائل ولا تلك الأساليب ولا الفصاحة والقدرة الأدبية لمواجهة خصمه المتنمر، ومع ذلك انتصر الدكتور عمر عثمان فى الصراع وفاز بمنصب المدير. ولمساندة خط اليسار كذلك وقفنا مع رئيس القضاء، بابكر عوض الله، ضد إسماعيل الأزهري، رئيس مجلس السيادة، والإمام الهادي المهدي في معركة رئاسة الجمهورية لإحباط مشروع الدستور الإسلامي. لكن الانتخابات لم تجر اذ عطلها إنقلاب جعفر نميري في 25 مايو 1969.