الخطاب السياسي..خياطة الجرح على الصديد
خالد ماسا
ولإشباع الرغبات في تحشيد الرأي العام في السودان لصالح الحرب، ظل الشعب السوداني متجاذباً بادوات الإعلام الحربي ناحية (الديموقراطية) من جانب وناحية (الكرامة) من جانب آخر. ولا نعتقد بأن ظروف الحرب هي ظروف مناسبة للعقل الوطني ليختار إلى أي الجوانب ينحاز، خاصة وأن قضية الحرب في ذاتها هي قضية (وجودية) بالنسبة للكل ولا توجد فيها مساحات للحركة وفقاً لخيارات متعددة.
عبثية الحرب التي تدور الآن في السودان تتمثل إمكانية تعريفها بأنها نتاج لمرحلة آخيرة في العملية السياسية التي تمت تسميتها بورشة الإصلاح الأمني والعسكري. وهنا المنطق والعقل يقولان بأن أي عملية إصلاح تُفضي الى المزيد من التماسك والتطوير لا أن تفضي الى ما نحن عليه الآن من تدمير للمنظومة المراد إصلاحها، ومعالجة المشكلات التي خلقت إختلالاً عاماً في المهام والواجبات المحددة دستورياٍ.
إذ يبدو من الواضح أن الذين إختاروا إسم الورشة في العملية السياسية قد إتفقوا فقط على لافتة الورشة لتناسب ماهو مطلوب كتابته في الرسائل المبعوثة لبريد المجتمع الدولي، ووجدان الشارع الثوري، بينما يظل الشيطان في تفاصيل إصلاح المنظومة العسكرية والأمنية، وهي الأكثر تاثيراً على مصير الدولة السودانية. ولذلك لم ينتظر شهر أبريل كثيراً ليتم إعلان الحرب فيه ومفارقة طريق الإصلاح كُلية، وملازمة طريق الخراب الذي تصنعه الحرب.
تسمع الأُذُن السودانية الآن ذات اللحن القديم، المأخوذ من ذات نوتة ما قبل الحرب التي لم توفر التطريب، ولا الاستمتاع للشعب السوداني. فلا حلول جديدة لمشكلات قديمة وذات الخمر القديمة في قناني جديدة.
إنشغل السياسيون بفكرة الإصلاح الأمني والعسكري، ووفروا لها إهتماماً أكثر من النظر لضرورات إصلاح الخطاب السياسي بالأساس، الذي نعتقد بانه كان خطاب (حرب) في مضامينه، أكثر من أنه خطاب إصلاح تعلو فيه القيم التي من أجلها تحققت ثورة ديسمبر.
الإقصاء والمزايده على مواقف الآخرين كانت هي السمت العام في الخطاب السياسي، وهو بذلك يمثل وجه صريح من وجوه خطاب الكراهية، وإن تنكر بثياب الثورة والتغيير والكرامة والديموقراطية ومصالح الشعب السوداني.
الحرب وعلى السوء الذي تنتجه كان بالإمكان أن تكون هي الباب لمراجهات جوهرية على الخطاب السياسي السوداني، وإصلاح كل ما إعتراه من خلل وعلل.
ولو أن السودان كان قد إنتبه مبكرا لنصائح بضرورة إنشاء المرصد السوداني لخطاب الكراهية لإنتبهنا قبل الحرب لهزات كبيرة ومدمره لهذا الخطاب، حيث تعتبر الحرب الحاليه أحد هزاته الإرتدادية بلغة خبراء الجيلوجيا ومراصد الزلازل.
أغلب التصدعات التي نعانيها الآن هي نتاج طبيعي لإستلاف لغة ومنهج خطابات الكراهية، وإستخدامها عبر منصات الوعي والتنوير وكأنها البديل الذي يوفر الحلول ويعالج المشكلات بينما هي بالأساس التي فتحت الباب على مصراعيه لتحل لغة الحرب والرصاص محل لغة الإصلاح والتغيير.
فعندما ننظر لمسودات التفاوض المطروحة الآن على طاولة النقاش، ونجد بأن قضية فتح المسارات للمساعدات الإنسانية لضحايا الحرب، وتوفيق أوضاع القطاع الصحي ليستوعب الحاجات التي تنتج جراء الحرب هي من ضمن الأجندة المختلف عليه، ندرك بأننا وصلنا لدرجة الصفر الذي تتجمد فيه قيم الحق والانسانيه.
يجب ان يعود العسكر للثكنات بقيمة هذا النداء الداعي بالأساس لا للإقصاء، أكثر من أنه يدعو للإلتزام بالحدود المنصوص عليها دستورياً. وأن يدخل الخطاب السياسي السوداني لغرفة العمليات لإجراء جراحات عميقة على مستوى يبعد عنه نشاط خلايا خطاب الكراهية السرطانية.
نحتاج لخطاب من نوع جديد يستدعي كل ماهو مطلوب لبناء الأمه السودانية الموحدة والقوية باحترام تعددها وتنوعها وتكثر فيه كريات الدم البيضاء التي تحفظة من إعادة إنتاج أسباب الأزمة السودانية.
ما من سبب منطقي وموضوعي يدفع البعض لحالة تفسير دعوات إيقاف الحرب بأنها حالة حياد سلبي في أفضل تفسير لها، وخيانة وطنية صريحة في أغلب التفاسير المنتشرة، أوان الحرب لدى شيوخ ووعاظ (الغلو) والشطط الوطني، مالم يكن الخطاب السياسي في السودان يعاني من (حمى الضنك) الوطنية، ولاتوجد أي محاولات لاصلاحه.
خياطة الجرح في الخطاب السياسي على (صديد) الأقصاء والتزيد والتخوين لن يتعافى بها السودان، ولن يُجبر بها الكسر المركب الذي أحدثته الحرب في الخاطر الوطني.