في نقد نظرية السلام الديمقراطي
د.نايف بن نهار - أستاذ في جامعة قطر
لم تكن الديمقراطية حين ظهرت إلى الوجود سوى رغبة محلية عندما بدأ وجود الديمقراطية، أي أنَّ المجتمع -أي مجتمع- يختارها آليةً مناسبة لتداول السلطة، حيث يرى أنَّ هذه الآلية هي الأفضل، فكما أن هناك مجتمعات تختار النظم الشمولية أو الأرستقراطية أو الثيوقراطية لأسباب ثقافية أو دينية، هناك كذلك مجتمعات تختار النظام الديمقراطي.
الديمقراطية إذن لم تكن سوى عقيدة اجتماعية، وأداة عمل سياسي على المستوى الداخلي، لكن في القرن الثامن عشر تحوّلت الديمقراطية نظرياً من عقيدةٍ محليّة إلى عقيدة دولية على يد الفيلسوف الألماني الشهير أمانويل كانت (1724-1802). فبعد أن كانت الديمقراطية مجرد خيار يتبناه المجتمع، أصبحت خياراً يُطالب به على صعيد المجتمع الدولي استناداً على النظرية الأقوى إسهاماً في الجدل حول أسباب السلم والحرب، وهي نظرية السلام الديمقراطي. نظرية السلام الديمقراطي أطلقها الألماني أمانويل كانتْ في مقالته الشهيرة To Perpetual Peace; A philosophical Sketch” ثم تعاقب عليها الباحثون دفاعاً واعتراضاً إلى يومنا هذا، ومن أواخر من أكّد فكرة السلام الديمقراطي وأكَّد التلازم بين الديمقراطية والسلام الخبيران الأمريكيان في مجال التعاون الدولي لورن كارنر و كينيث ولاك، حيث أكدا في دراستهما اتجاهات جديدة لتطوير الديمقراطية أنَّ تعزيز الديمقراطيات هو أفضل حل لجلب السلام عبر الحدود.
نظرية السلام الديمقراطي كانت أحد المنطلقات الفكرية التي ساهمت فيما يمكن أن يُسمَّى الجهاد الديمقراطي الذي تبنّته الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا سيّما في حقبة الحرب الباردة. وهذه النظرية تطالب بعدم اكتفاء الدول الديمقراطية بأن يكون نظامها الخاص ديمقراطياً، بل يجب أن تكون الديمقراطية عقيدةً دولية يتبناها المجتمع الدولي بأسره، فتكون الأنظمة السياسية في كل العالم أنظمة ديمقراطية حتى تتحقق نظرية السلام الديمقراطي.
إذن الجديد في نظرية السلام الديمقراطي أنها نقلت الديمقراطية من عقيدة محلية اختيارية إلى عقيدة دولية تُفرض فرضاً على الشعوب، فمع أن الديمقراطية هي تعبير عن اختيار الشعوب لكن نظرية السلام الديمقراطي تقول: لا ديمقراطية في قبول الديمقراطية. فيجب على جميع المجتمعات قبولها وإلا كانت متخلفةً ورجعيةً.
وسوف نشرح بإيجاز نظرية السلام الديمقراطي التي تعد المنطلق الفكري للسياسة الغربية الداعية لنشر الديمقراطيات في العالم، ثم نحاول مناقشتها من خلال ذكر الاعتراضات والإيرادات.
مرتكزات نظرية السلام الديمقراطي
فكرة السلام الديمقراطي ترتكز على مبدأين:
المبدأ الأول: أن الدول الديمقراطية لا تتقاتل فيما بينها، وقد يكون التاريخ دليلاً على ذلك؛ لأنَّ التاريخ لم يشهد حرباً بين دولتين ديمقراطيتين، لكن لماذا الدول الديمقراطية لا تتحارب؟
يرى أنصار هذه الفكرة أنَّ الذي يمنع نشوءَ حربٍ بين الدول الديمقراطية عدة أمور:
الأمر الأول: أنَّ قرار الحرب في الدول الديمقراطية ليس سهلاً كالدول غير الديمقراطية؛ لأن قرار الحرب في الدول الديمقراطية لابد أن يمر عبر مؤسسات التشريع في الدولة، وهذا من شأنه أن يُعقِّد المسألة، أما قرار الحرب في الدول الديكتاتورية فلا يحتاج إلا إلى قرار من رأس الدولة.
الأمر الثاني: أنَّ الديمقراطية من شأنها أن تخلق وعياً شعبياً، وثقافة سياسية، وتنشئة اجتماعية Socialization تمنع من تقبّل المجتمع الجمعي فكرة الحروب والصراعات العسكرية مع الدول الأخرى.
الأمر الثالث: أنَّ هناك ثقة واحتراماً متبادلين بين الدول الديمقراطية لكونها تشترك بذات المبادئ والفلسفة، ومن ثم فإنها لن تلجأ إلى محاربة بعضها.
الأمر الرابع: أن الدول الديمقراطية بما أنها تمتلك آليات ديمقراطية لمعالجة مشاكلها الداخلية فإنها كذلك ستستعمل آلياتها الديمقراطية في معالجة قضاياها الخارجية.
المبدأ الثاني: أن العلاقات خارج المنطقة الديمقراطية علاقات صراعية، أي أنَّ الأصل فيها عدم السلام، بما في ذلك العلاقات بين الدول الديمقراطية مع غير الديمقراطية، لأن الدولة الطبيعية هي دولة الحرب وليست دولة السلام.
مناقشة نظرية السلام الديمقراطي
نظريَّة السلام الديمقراطي تقوم ـ كما مضى ـ على فكرة أن الدول الديمقراطية لا تتقاتل فيما بينها استنادًا إلى التاريخ الذي لم يشهد أي حرب بين دولتين ديمقراطيتين، واستنادًا إلى منطق الديمقراطية ذاته الذي يعقّد عملية صنع القرار مما يقلّل احتمالية خلق الحروب، وعلى غير ذلك من المسوِّغات التي قد سبق إيرادها، وهذا يمكن مناقشته من خلال الاعتراضات الآتية:
أولاً: لا نسلّم بأن الدول الديمقراطية لا تتحارب فيما بينها، فعلى سبيل المثال قامت الولايات المتحدة الأمريكية الديمقراطية في عام 1953م بالاعتداء على أمن دولة ديمقراطية أخرى وهي إيران، وأسقطت رئيس وزرائها المنتخب ديمقراطياً فقط لأنه عارض مصالحها. وأكثر من ذلك قد أرسلت بريطانيا الديمقراطية قوّة عسكرية تمهيداً لإعلان الحرب ضد إيران الديمقراطية آنذاك لأن إيران قررت أن تؤمم الصناعة النفطية وطرد الشركة البريطانية.
ثانياً: حتى لو تنزّلنا وقلنا إنَّ الدول الديمقراطية لم تتحارب فيما بينها، فإن المشكلة تكمن في أن مجال تطبيق فكرة السلام الديمقراطي لا يتجاوز المساحة الديمقراطية، أي أنَّ السلام الديمقراطي محصورٌ فقط في علاقات الدول الديمقراطية، أما علاقات الدول الديمقراطية مع غيرها من الدول فهذا ليس مجال بحث هذه النظرية. وأدنى قراءة للتاريخ تبيّن حجم الكوارث التي سببتها الدول الديمقراطية على امتداد البسيطة، فلا أحد ينسى ما فعلته أمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان وما فعلته بريطانيا في الهند وإيران والكونغو وأفغانستان، وما فعلته فرنسا في أفريقيا الشمالية والغربية، بل يكفي أن نتذكر أن مليوناً ونصف مليون جزائري صاروا من أصحاب القبور فقط لأنهم أرادوا استقلالهم من فرنسا الديمقراطية.
فما فائدة نظرية السلام الديمقراطي ما دام أن الدول الديمقراطية تعيش فيما بينها بسلام وهي نفسها تنشئ الحروب والكوارث في الدول غير الديمقراطية؟ وما أصدق الكاتب الفرنسي آلن باديو حين قال: الحقيقة أن الديمقراطية لم تستطع أن تخفف من حدة العنف داخل المجتمعات الغربية إلا بواسطة تحويل هذا العنف إلى الخارج وقال كذلك: الاشتراكية تورد العنف للداخل والديمقراطية تصدره، وأن تكون جلاد شعوب أخرى عوضاً عن شعبك بالتحديد.
ثالثاً: حتى لو أنَّ التاريخ لم يثبت أي حرب بين دولتين ديمقراطيتين فإنَّ هذا لا يدل بالضرورة على صحة المبدأ، أي أنه لا يوجد تلازم عقلي ولا علمي بين وجود النظام الديمقراطي وانعدام الحروب، فعدم الوقوع لا يستلزم امتناع العدم كما يقول المناطقة، فقد تكون هناك دواعٍ أخرى صرفت الدول الديمقراطية عن الحرب غير مسألة طبيعتها الديمقراطية.
رابعاً: أنَّ انعدام الحرب بين دولٍ بعينها لا يعني صحة مبادئ تلك الدول، وإلا فقد كان هناك عشرات الدول الشيوعية المنتشرة في العالم ومع ذلك لم نجد في التاريخ دولةً شيوعية تتقاتل مع دولة شيوعية أخرى، فهل هذا يدل على أن مبدأ الشيوعية صحيح؟
خامساً: أن من ادعاءات منظري السلام الديمقراطي أن هناك ثقة متبادلة بين النظم الديمقراطية، وهذا يعني أنهم لن يصلوا إلى مرحلة الحلول العسكرية. لكن هذا أمر تهدمه نسبيةُ المفهوم الديمقراطي الذي تسببت به الأدلجة الحديثة للديمقراطية، فالدولة قد تكون ديمقراطية بنظر أصحابها ونظر كثيرين من حلفائها أو حتى المحايدين، لكنها ليست ديمقراطية عند خصومها. فمثلاً تعدُّ الجمهورية الإيرانية دولة ديمقراطية في نظر كثير من النخبة الإيرانية الحاكمة وكثير من الدول والمثقفين، لامتلاكها بعض مقوّمات العملية الديمقراطية كالانتخابات المنتظمة والتداول السلمي على السلطة ونحو ذلك، لكنها لا تعد ديمقراطية في أعين الكثيرين لا سيما في العالم الغربي، فهم يرون إيران دولة ثيوقراطية مستبدة.
وكذلك الحال فيما يتعلق بإسرائيل، فالغرب يرى أن النظام السياسي في إسرائيل نظامٌ ديمقراطي، بينما يرى آخرون أنها ليست كذلك؛ لأنها دولة دينية يهودية، ولا يمكن أن تكون الدولة دينيّة وديمقراطيّة في الوقت نفسه. وكذلك الاشتراكيّون لا يعترفون بالديمقراطية الليبرالية التي تحتل القسم الأكبر من العالم الغربي، حيث يرون أنَّ الديمقراطية تناقض الليبرالية والرأسمالية، وأنَّ الديمقراطية لا يمكن أن تعمل إلا في نظام اشتراكي.
هذه النسبيَّة في رؤية الديمقراطيّة تجعلنا نتساءل عن قيمة نظرية الديمقراطيات لا تتحارب فيما بينها، فأي ديمقراطيّات نقصد وقد رأينا اختلاف الناس في تحديد الدول الديمقراطية؟
سادساً: دعاة نظرية السلام الديمقراطي يزعمون أن الدول الديمقراطية تحل مشاكلها مع الآخرين من خلال الآليات الديمقراطية بخلاف الدول الديكتاتورية التي لا تمتلك تلك الآليات أصلاً.
وهذا كلام خيالي لا واقع له، فالتاريخ يخبرنا أن الدول الديمقراطية تطبق معاييرها الديمقراطية فقط في شأنها المحلي، أما في السياق الدولي فهي تتناسى المعايير الديمقراطية وتجنح إلى الحلول العسكرية عند تعرض مصالحها للخطر. فعلى سبيل المثال حينما كانت بريطانيا الديمقراطية تخاف النفوذ الروسي في أفغانستان عام 1838م، لم تجد حلاً ديمقراطياً لهذه المخاوف، فلم تدعم الحكومة المركزية مثلاً أو تمكّن المجتمع الأفغاني من خلق مؤسسات فاعلة تتصدى للنفوذ الروسي، وإنما اختارت مباشرةً الحل العسكري فذهبت واحتلت أفغانستان!! وفرنسا الديمقراطية لا تختلف عن نظيرتها البريطانية، فهي حينما خافت في نهاية القرن التاسع عشر من التغلغل الإيطالي في تونس لم تجد حلاً لذلك إلا احتلالها. وبالتأكيد أنّ أيَّ نظرية سيئة سنجد دائماً أمثلةً عليها عند الولايات المتحدة الأمريكية، فتاريخ الولايات المتحدة مليء بتفضيل الخيار العسكري على الخيار الديمقراطي في معالجة قضاياها ومصالحها مع الآخرين، وآخر مثال على ذلك هو حرب العراق في عام 2003؛ فالأمريكيون على الرغم من أنهم اخترعوا كذبة أسلحة الدمار الشامل فإنهم لم يحاولوا أن يحلوا هذه المشكلة –الوهمية- وفقاً للآليات الديمقراطية، وإنما كانت الحرب خيارهم المفضَّل.
وإن كانت النوايا صافية عند مؤسسي نظرية السلام الديمقراطية، فإنها قطعاً ليست كذلك عند صانعي القرار الأمريكي، فالولايات المتحدة لم ولن تتبنَّى نشر الديمقراطية في العالم لوجه الله، وإنما تريد أن تصيّرها أداة هيمنة دولية لتحقيق نفوذها، وفي هذا السياق يصدق قول الفيلسوف والقانوني النمساوي هانس كوكلر حين قال منتقداً توظيف الديمقراطية من قبل صنّاع القرار الأمريكي: الديمقراطية ما هي إلا شعار لضمان الهيمنة الدولية.
وقد حاول العديد من الباحثين مناقشة فكرة السلام الديمقراطي كالباحثين الأمريكيين Bruce Russett و Zeey Maoz في بحثهما الأسباب المعيارية والبنيوية لنظرية السلام الديمقراطي. لكن في الحقيقة أكثر الأبحاث _بحسب اطلاعي_ شمولاً وتنظيماً كان بحث سباستيان روساتو الذي صدر في نهاية عام 2003م، وقد كان عنوانه المنطق المغلوط (أو الخاطئ) لنظرية السلام الديمقراطي. ولا يسعني هنا إيراد كل ما ذكره سباستيان روساتو، فقد ناقش فكرة السلام الديمقراطي نقاشاً مسهباً وفصّل فيه تفصيلاً طويلاً. لكن خلاصة ما قاله أنَّ هناك منطقين يستند إليهما منظرو فكرة السلام الديمقراطي: المنطق المعياري والمنطق المؤسسي، ثم جعل الجزء الأكبر من بحثه في نقض هذين المنطقين بكل عناصرهما، ولم يكن نقضه فكرياً فحسب، بل ذكر عشرات الأمثلة الواقعية التي من شأنها دحض هذه النظرية.
خلاصة القول في نظرية السلام الديمقراطي
الخلاصة مما مضى أن نظرية السلام الديمقراطي تعني أنه يجب أن تكون الديمقراطية عقيدة دولية؛ لأنه انتشار الديمقراطية دولياً يستلزم انتشار السلام الدولي. وقد أوضحنا سابقاً أن هذه النظرية هشَّة ولا تثبت أمام النقاش، لا من الجانب النظري المنطقي ولا من الجانب العملي التطبيقي. فمن الناحية المنطقية لا يوجد تلازم عقلي ولا عادي بين الوجود الديمقراطي وتحقق السلام، ومن الناحية الواقعية ثبت أن الدول الديمقراطية هي أكثر الدول خرقاً للسلام وصناعةً للحروب.