09/10/2023

حكاية (س).. المأساة تَتَحَدّث عن نفسها!

محمد عبد الماجد

إذا نقلت لكم الصورة في الخرطوم الآن كما هو الحال، سوف تظنون إنّي أبالغ في الفجيعة. وإن كُنت اتّفق معكم في المبالغة، ولكن في الاتّجاه الآخر، لأنقل لكم الحدث وأنا أحاول التخفيف فيه والتروي، درءاً لآثار الوجعة، وعملاً بمبدأ أنّ الصبر مفتاح الفرج، وأنّ الحمد والشكر أفضل رد على الابتلاءِ. مع ذلك لا نسقط (الفجيعة) فيما يحدث في الخرطوم ليحاسبوا من تسبّبوا في ذلك. وقد زاد انقطاع التيار الكهربائي منذ يوم الخميس الماضي، الحرب على المواطنين. وانقطاع التيار الكهربائي يعني انقطاع المياه وتوقُّف الحياة بصورة أقرب للكاملة، والناس يشربون ويأكلون وينومون بالكهرباء، في ظل ارتفاع كبير في درجات الحرارة.

حاج حسن بـ (عرّاقي) أبيض قديم، وسروال تآكلت أطرافه، وطاقية كان يضعها مُنحدرةً على جبهته، صار يضعها في منتصف رأسه. في بداية هذه الحرب كان حاج حسن يقول، والرصاص يتساقط أمامه، والله أعظم من (الأمن) مافي!

حتى إذا قطعت الكهرباء وغاب تيارها عن الاسلاك والبيوت قال: والله أعظم من الكهرباء مافي. وبعد انقطاع التيار الكهربائي انقطعت المياه تلقائياً، فقال حاج حسن: الكهرباء ما مشكلة، الكلام الموية! أعظم من الماء مافي. وعندما تحدث أزمة في الرغيف وتمتد صفوفه في الأفق يقول: والله أعظم من الرغيف مافي. إذا وجد الرغبف فكل شئ سهل.

هذه الأيام يشرب حاج حسن المياه وهي في درجة حرارة أقرب إلى الغليان، ويقول حاج حسن، وهو يتجرّع كوباً من المياه الساخنة، والله أعظم من الموية (الباردة) مافي!

ثُمّ أصبح حاج حسن، وقد أصابه الوهن والفَتَر والضعف، يكتفي بالقول: مافي أعظم من العافية، إذا كانت الصحة بخير. كل شئ يُمكن أن يكون بخير. ثُمّ يهمهم وهو في طريقه للانصراف: المهمة العافية!

الذين يوقدون الحرب ويشعلونها من الخارج وهم في مأمن منها، نقول لهم، خافوا الله في هذا الشعب. أنّ الأوضاع لم تعد تحتمل. وأنّ منظر الناس وهم يحملون الجرادل والجركانات في الطرق منظرٌ مُحبطٌ ومُؤسفٌ والبؤس على وجوههم وهم يطاردون أخبار المياه، ويلاحقون منابعها بالشم، نساءً وشيوخاً وأطفالاً يُلاحقون سلسال المياه حتى جَفّت (الأزيار) التي كانت (سبيلاً) في الطرقات للمارين والعطشى.

في هذه الحرب، سقطت الشهادات، واحترام الناس للدرجات العليا. ولم يعد الكبير يجد احتراماً أو وقاراً، ولم تعد هنالك رفقة بالنساء، ولا رحمة بالمريض، ولا إغاثة للمحتاج والملهوف.

في هذه الحرب، نفقد المروءة والأخلاق السودانية التي كُنّا نعرف بها، وهذا أمرٌ قد يكون طبيعياً والحرب توشك من الدخول في شهرها السابع.

ماذا تنتظرون بعد أن أكملت الحرب شهرها السادس؟ هذه المدة لا تولد غير البؤس والقحط والفقر والسلب والنهب.

استمرار الحرب يؤدي إلى عواقب وخيمة، أخطر من تفتيت السودان وشرذمة الوطن. نحن نفقد (أخلاقياتنا) في ظل هذه الحرب والنهب والسلب الذي لا يختلف عنهما (الجشع والطمع) كثيراً، ليس من عامة الناس فقط، بل من الأهل والأقارب حتى، وهم في الولايات الآمنة، والإيجارات تصل للمليار جنيه وأكثر من ذلك في الشهر!

الحكومة السودانية فقدت إحساسها بالناس. هُم لا يعنيهم في هذه الحرب غير مناصبهم وسلطتهم وكراسيهم. يُغلِّفون ذلك بغشاء الوطنية.

حكت سيدة روسية في نهاية عقدها التاسع، عن أيام عاشتها قبل سنوات عن الحرب، فقالت إنّها لا تنسى تلك البيضة الشهية التي أكلتها مع أربع رفيقات لها أيّام الحرب في سكنهن الجامعي بموسكو، (كان عيداً حقيقياً أنّ إحدى رفيقاتنا عادت من ضيعتها ببيضة مسلوقة واحدة، واقتسمتها معنا نحن رفيقاتها الأربع. لم آكل في حياتي أشهى من تلك البيضة). تقول الروسية وهي دكتورة اسمها روفينا، وهي تحكي عن الحرب لمجلة الدوحة، وتتحدّث كيف كن ينمن الليل متراصات في المعاطف وأحذية اللباد، فلا تدفئة، والحرارة خلف الجدران بين ثلاثين وأربعين تحت الصفر، والجوع يُضاعف الشعور بالبرد.

وتبتسم روفينا، وتغيم عينا رفيقتها كلارا وتبدو مرتبكة، وهي تتذكّر تلك القطع من الخبز اليابس التي خبأتها في مكان من المبنى المعتم، وراحت تلتهم منها قطعة كل ليل، قبلما تنحشر لصق زميلاتها الحالمات بالبقاء على قيد الحياة إلى الغد.

وتقول: (كان أمراً مخجلاً أنّني خبأتها عن رفيقاتي، لكنني كُنت جائعة طوال الوقت).

ويحكي كاتب القصة منذر بدر حلوم، ويقول أتذكّر معهن سعادتي يوم تمكّنت، أنا كاتب هذه السطور وكنت أعرف جيداً معنى فساد اللحوم المعلبة، من شراء معلبات منتهية الصلاحية ومعدة للإتلاف. ورحت مغامراً متجاهلاً معرفتي بالسموم التهمها باستمتاع، وكانت رفوف المخازن أخلتها إرادة ما تخدم الانهيار من كل شئ إلّا البيض والمعكرونة.

كم مائة يوم على التوالي يمكن للمرء أن يأكل البيض والمعكرونة دون أي شئ آخر؟ لا تصغّروا الرقم يا أصدقائي. يمكن فعل ذلك إلى ما لا نهاية له. كان أستاذ الأحياء الدقيقة يُحدِّثنا بمهارة فائقة عن البوتوليزم حتى أصابنا برهاب التسمم. واستمتعت بالعلب الصغيرة الكثيرة المعدة لساندوتشات الصغار، خلا تلك المنتفخة، ولم يعد يعنيني إلّا كأس شاي محلي بالسُّكّر (لم أذق طعم السُّكّر طوال سنوات الحرب).

هذا عن آثار الحرب في روسيا.. كيف حال الناس في السودان وهم يعيشون تحت خط الفقر، وينتشر بينهم المرض والجهل والطمع والسلب والنهب؟

الحرب في السودان تقرب من إكمال الشهر السادس، أي أنّ 180 يوماً لم يسكت فيها الرصاص. ولم يتوقّف فيها النهب والسلب. ولا أنسى (الطمع والجشع) اللذين قلت عنهما أنهما أخطر من (النهب والسلب)، لأن النهب والسلب يقعان من (الغريب) ويقع الجشع والطمع من (القريب).

180 يوماً والحياة في السودان مُهٌدّدة وفاقدة لأهلية العيش والحياة.

سوف أحكي لكم قصة تابعتها بنفسي وتركت في دواخلي جروحاً من الصّعب أن تندمل! بعض الناس جاءوا لهذه الحياة ومضوا منها بسرعة، لم يتركوا حتى (أسماءهم). فقد آثروا أن ينتقلوا إلى الدنيا الآخرة دون أن يتركوا عنواناً أو اسماً أو رقم هاتف يمكن التواصل به مع ذويهم. جاءوا الي هذه الدنيا في هدوء ورحلوا منها في هدوء.

هنالك أناسٌ سقطوا في هذه الحرب بتلك الطريقة دون أن ينتبه أو يلتفت لهم أحدٌ. هؤلاء هم ضحايا الحرب الحقيقيين.

السيدة (س) ست شاي لا أعرف اسمها، لذلك افترضت لها اسم (س). وقد حاولت أن أحصل على اسمها، لكن كل من تواصلت معهم قالوا لا يعرفون لها اسماً. لقد ظهرت قبل أسبوع وقبل أن تكمله، رحلت سريعاً.

قبل أسبوع، مررت بتقاطع شارع الحاج يوسف الرئيسي، الذي يؤدي إلى الصهريج والوحدة ويعرف باسم شارع كسلا مع تقاطع شارع البان جديد. في هذا التقاطع كانت هنالك مظلة تُستعمل لبيع الفواكه والخضروات قبل الحرب، هجرها صاحبها، لأنّ المنطقة أصبحت غير آمنة والرصاص يأتي من كل الاتّجاهات.

وأنا أمرُ بهذه المظلة لاحظت أنّ هنالك (ست شاي) مع طفلتها الصغيرة، تجلس عليها وتبيع الشاي والقهوة، غير مكترثة بالمخاطر التي يُمكن أن تصيبها وهي تبيع الشاي في هذا التقاطع.

علمت أنّ تلك السيدة جاءت من الـ (35) وهي منطقة تفصل بين الحاج يوسف وعِد بابكر، الى هذه المظلة في ذلك الموقع من التقاطع الحيوي لأنها تظنه موقعاً استراتيجياً مع مخاطره. يبدو أنّ الظروف الاقتصادية اجبرتها على أن تأتي من منطقتها البعيدة في كل صباح مع طفلتها من أجل أن تسترزق من بيع الشاي والقهوة.

حاجة المرأة التي أطلقت عليها (س) كانت أكبر من مخاوفها، وهي تأتي لهذه المنطقة وتُعرِّض حياتها للخطر والموت.
زوجها كان غير موجود وهي كما كان يظهر معها لها من الأبناء طفل وطفلة لا تتجاوز سنهما الـ 15 عاماَ، وربما لها غيرهما.

استمرار الحرب هو الذي قضى بها إلى ذلك، لتأتي عند السابعة صباحاً وتعود في المساء بعد أن تكون قد تحصّلت على بعض ما يسد حاجتها وحاجة عيالها.

كانت وأنا مررت بها مرة تبدو سعيدةً بموقعها هذا، وهي ترش الأرض بالماء في نشاطٍ، وتُوقد بخورها في ابتهالٍ، وتملأ صبارة المياه بحيويةٍ، وتستقبل ضيوفها بأريحية ورضاءٍ.

أمس الأول مررت بمحلها فوجدت أنّ زوايا المظلة متفرقة في الأنحاء، وأنّ العدة التي تبدو أنّها كانت عدة شاي موزعة على الطرقات وهي قد عُجنت ودكت دكا دكا.

سألت عن المظلة وعن ست الشاي والطفلة التي كانت تجلس تحتها ولم تكمل فيها أسبوعاً، فقيل لي إنّ هناك عربة توسان كان يسوقها أحد أفراد قوات الدعم السريع عند السابعة والنصف صباحاً بسرعة خيالية، جعلته يفقد سيطرته على العربة في تقاطع الشارع ليدخل في المظلة ويقذف بست الشاي وابنتها بعيداً.

ست الشاي ماتت في الحال، فقد تكومت (جثة) هامدة، أما ابنتها فقد أُصيبت إصابات بالغة نتجت عنها كسور وجروح كبيرة، ونُقلت إلى المستشفى ولا أدري إن كانت الآن على قيد الحياة أم أنها لحقت بأمها.

أما الطفل فقد تأخر في ذلك اليوم وجاء يحمل صبارة المياه الباردة ليجد الناس متجمعة حول امرأة تكاد أن تفقد ملامحها، وطفلة كانت بين الحياة والموت وأوانٍ ومقاعد مفرقة. يا للهول الطفل يُفاجأ أنّ أمه ماتت وأنّ اخته مصابة. الأكيد أنّ الطفل كانت إصابته أبلغ من إصابة شقيقته التي كانت بين الحياة والموت.

القصة لم تنتهِ على ذلك، لأن الحرب مستمرة والفواجع مُتجدِّدة.

قرأت عن وفاة 9 آلاف مدني بسبب هذه الحرب. الأكيد أنّ الذين توفوا على طريقة (س) أضعاف هذا الرقم، وهنالك من ماتوا لأنهم لم يجدوا الدواء ولا العناية.

الذين ماتوا والحرب لم تكن سبباً مُباشراً في موتهم، أضعاف من ماتوا بالرصاص والقذف الجوي والمدفعي والدانات.

انتهى!!
أبو إبراهيم

معرض الصور