نحن أحق بالخرطوم.. وعمارنا من عمارها
يوسف حمد
(هل هدأت بلدكم.. ألم تهدأ بلدكم بعد)؟ الصيغتان استفهام واحد يقال في مواجهتي بطرق متعددة، وظللت استقبله من كل شخص يقابلني، ويعرف أنني من سكان الخرطوم المحترقة بالحرب. ولأن السؤال صعب من عدة أوجه، لا أرد عليه إلا بالابتسام أو بالقليل من التعليق على اللغو السياسي المتواتر في اللحظة والتو.
لست من مواليد الخرطوم، إنما جئتها قبل ثلاثين سنة ضمن زمرة من الناس الذين تحملهم تطلعات شتى. وبتوصيف أدق، نحن أولئك الذين قالت عنا الباحثة لؤلؤة إبراهيم لجامعة هارفارد (أننا ابطأنا من الثورة المتوقعة ضد نظام الإخوان الإسلاميين. فلولانا لتمكن أهل العاصمة من اشعال ثورتهم، وكذلك نحن أيضا الذين فجرناها في نهاية المطاف).
قالت لؤلوة إن التحول الحضري الذي ساهمنا فيه (شكل قوة مواتية تعمل على تسريع أو إبطاء استحواذ النظام على السلطة... وفي الوقت الذي عزز فيه من قوة النظام لمدة ثلاثين عاما تقريبا، تم التصدي لذلك من خلال التركيبة الإثنوغرافية المتغيرة للمدينة).
في الواقع، كانت الخرطوم سكنى لنحو ٣ ملايين نسمة حتى العام ١٩٩٠، وقد صممت مرافقها العامة لهذا العدد. لكن حين وصلنا نحن، جعلناها سكنا ومرتعا لأحلام أكثر من ١٠ ملايين نسمة، هم الذين احترقت من فوقهم المدينة في نهاية المطاف.
تشير أطروحة لؤلؤة بوضوح إلى أنه (في الوقت الذي استفاد فيه نظام حزب المؤتمر الوطني من التحول الحضري، في فترات معينة، انطوى هذا التحول على نتائج غير متوقعة، عجلت، في نهاية المطاف، بتغيير النظام) عبر ثورة سلمية مشهودة.
ربما انطلاقا من رؤية لؤلوة إبراهيم ظللت اتلقى هذا السؤال المستفهم عن حال المدينة ما إذا كانت قد هدأت واستراحت من الحرب، وبالتالي يتوقع السائل عودتي لها في أي سانحة! ويستبطن، في الوقت نفسه، الإشارة إلى فجاجة هذه الحرب، فمثلما بدأت للاشيء وبلا هدف مقنع، يتعين أن تزول مثل زوال الحمى الطارئة.
أثناء تداعيات هذه الحرب وكثافة أسئلة المصير، بدا لي أن الخرطوم أكبر من كونها ( قوس من رمال الصحراء ومجرى النيل)، كما وصفها المعماري نوربيرغ شولز، بل كانت حياة خاصة تمنحنا معنى الوجود والنضال الحق، والمزعوم أيضا، والمقاومة الباسلة! وفي أي وقت، نحن أحق بالسؤال عن حالها: كيف ومتى تهدأ لتعمر من جديد؟