الكاتب والناقد محمد عبدالرحمن حسن: اتخوف على مستقبل السلمية
الأصمعي باشري
بعد أكثر من ثلاثة أشهر قضاها تحت القصف، وضربات المدافع، والطيران المُسيّر، وحيداً في بيته، بحي ابو آدم، جنوب الخرطوم، وصل إلى مدينة شندي، الناقد التشكيلي، الكاتب، والباحث، والاستاذ الجامعي، الدكتور محمد عبد الرحمن حسن (بوب)، في طريقه الى مدينة بورتسودان.
تحسّر محمد على ما آلت إليه الأوضاع في الخرطوم بسبب حرب ١٥ أبريل، َواعتبر أنّ مايجري الآن بمثابة كارثة إنسانيِّة، وورطة وجوديِّة، تُهدد مستقبل الإجتماع السُّوداني، قبل الدولة، واحتضار المدينة، قبل جغرافيتها، مُبيناً أنّ أكثر الناس تشاؤما لم يكن يضع في الحسبان مثل هذا السيناريو الذي يحدث في الخرطوم، وولايات أخرى.
قال محمد: إنّه حتى الرابع عشر من شهر أبريل المنصرم، وحتى ساعات الصباح الأولى، والتي كان يتحرك فيها من حي برى، لمنزله بحي أبو آدم، بعد ليلة مؤانسة، قضاها برفقة الأصدقاء بكافتريا معرض الخرطوم الدولي. وعلى الرغم من وجود بعض المظاهر العسكرية فوق العادة، حيث عبر من خلال خمس نقاط تفتيش، لم يجول بخلده اكثر من كونها محاذير أمنية، تحسباً لمظاهرةٍ دعتْ لها بعض الكتل السياسية الرافضة لمسار الاتفاق الاطاري بين الجيش، والدعم السريع، والقوى المدنية الأخرى.
تفاجأ محمد في صباح اليوم الثاني ببوادر اشتباكات عسكرية، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لكنه حتى هذه اللحظة، كان يرى بأنها مجرد حدث عابر ستتم السيطرة عليه، كما حدث اكثر من مرة منذ العام ٢٠١٩.
بيد أن إستمرار المعارك، وما أحدثته من خسائر فادحةٍ في الأرواح والممتلكات خلال الأيام الأولى، دعاه لاعادة النظر والتأمل من جديد، واستدعاء حقب تاريخ العنف السوداني، ولو نظريا واسقاطها على واقع الأحداث المتفاقمة يوما بعد يوم، واشار إلى تاريخ انهيارات الخرطوم كمدينة عبر العصور، لقرنيين منصرمين، وظروف نشأتها وتكونها، لاستبانة رؤية نقدية تضع الحرب الحالية في مجرى التحليل المتأني، وفقا لسياقاتها التاريخية وتعقداتها الاجتماعية، والثقافية وبالطبع السياسية. وهو موضوع كبير وشائك، لا يمكن فهمه بهذه السرعة، أو محاولة كتابته بصورة متعجلة، قد تكون غير صحيحة، أو بالأحرى غير دقيقة، لكنه عاد ونبه لغفلة السودانين وغياب الدراسات المهمة حول التحولات الاجتماعية الكبيرة، وبالأخص ما افرزته حرب دارفور خلال أكثر من عقدين من الزمان. وهو حقل خصب تم طمره أو طمسه بطغيان الخطاب السياسي المبتور.
ويتخوف محمد عبد الرحمن، من تاثيرات العنف الحالي على مستقبل السلمية، الذي تميزت به ثورة ديسمبر المجيدة، وعلى مستقبل التفكير العقلاني لدى الشباب، وتصوراتهم لمفاهيم مثل الديمقراطية، ودولة المواطنة، والحقوق، وسبل تحقيق العدالة.
وعلى الصعيد الشخصي فإن فترة التسعين يوماً، التي عاشها في ظل ظروف إنسانية صعبة بسبب الحرب، ونقص الخدمات الأساسية، والتهديد المستمر والمباشر لحياته، حيث عاش أياما وليال، داخل المنزل، بسبب ارتكازات الجنود باسلحتهم الثقيلة والخفيفة، وشاحاناتهم المدججة بالمضادات، من أمام باب المنزل عند محطة نوباتيا الشهيرة بالمعارك العسكرية في الخرطوم، التي تتوسط عددا من المناطق العسكرية مثل سلاح المدرعات، وسلاح الذخيرة، ومجمع اليرموك الحربي، الاحتياطي المركزي. ولولا لطف الله ورعايته لكان في تعداد المفقودين، حين تعرض لمرتين للموت بالرصاص المباشر.
يحكي محمد عن ظروف اكله وشربه، عن طبخه لمواد كان لا يعرف كيف يمكن أن تستوي كطعام بشري. وعن ماء الشرب من بئر منزله، يشربها بعد تنقيتها وفلترتها بالحصى وغليانها، ويندهش بسؤال كيف نجوت من كل هذا؟.
خلال هذه المدة العصيبة، عاد محمد للرسم بعد انقطاع دام أكثر من خمسة عشر عاماً. وبدأ كتابة مسودة حول رؤيته الجديدة للسودان كمجتمع، وهي فكرة مؤجلة من قبل كتبه الثلاثة الأخيرة. وكان يرى بأن تقديم رؤية حول وطنه، تلزمك بمعرفة واسعة بسياقات تاريخية تلامس واقعه، وأخرى لفهم الآخر. وبحسرة يقول: لكن للأسف ما اجنزته من لوحات، وما كتبته من مسودات على الورق، تركته في البيت عرضةً لاستباحة متوقعة، بعد خروجي من البيت.
درس محمد عبد الرحمن الفن التشكيلي، ثم الفلسفة، والتاريخ، فتعدَّدت معارفه ما مكنه من أن يكون ضمن قائمة المفكرين السودانيين على قلتهم، وهو صاحب مشروع نقدي وفكري، وله مساهماته الواضحة في هذا الحقل, فأصبح مهتماً بمناهج ما بعد الثورة اللسانية.
صدر له هوية التشكيل العربي بين الأصالة الاغتراب عام 2011. وفائز بالجائزة الأولى للشارقة للنقد التشكيلي، والفنون التشكيلية وتحديث المجتمعات العربية بين الحداثات المتعددة، وتعدد المناظير المحلية. وحاز 2016 المركز الثاني لنفس ألجائزة. كما صدر له أيضا خلال الست سنوات الاخيرة، كتاب (من نقد الحداثة إلى نقد الحضارة)، في جزئين: الأول تحت عنوان (ذاتيَّات .. فضُّ نظرة الفلسفة الأوروبيَّة إلى الإنسان والمجتمع)، والثاني جاء تحت عنوان (ثورات .. فضُّ الخطاب التَّاريخي الأوروبي)، عن دار وقف للنشر. وعن دار مناظير، صدجر له كتاب (نقد فكر الجنوب العالمي.. مقدمة للانتقال من نقد الحداثة إلى نقد الحضارة).