(اللّداية) تحوّل العاصمة إلى قرية
علي طاهر
الأثافي هي الحجارة التي يوضع عليها قدرة الطعام، وتعد أقدم وسيلة للطهي. وهنا في السودان يطلق عليها اللّدايات وتستخدم على نطاق واسع في المجتمعات الريفية والبدوية قبل أن تستوردها الحرب إلى العاصمة الخرطوم، وتصبح اللّداية وسيلة أساسية للطهي انتشرت داخل البيوت وفي الشوارع.
أماني ميرغني وشقيقتها أميمة تجيدان فن الطهي وإعداد أنواع الأطعمة السودانية، إلا أنهما للمرة الأولى في حياتهما تستخدمان اللدّاية بعد انقطاع الإمداد الكهربائي في الحاج يوسف بمدينة بحري 8 أيام، انعدم خلالها جميع أنواع الطاقة واختفى الفحم النباتي، لم تعرفا البتة أنها وسيلة الحبوبات القديمة لصناعة الطعام إلا في أيام هذه الحرب التعيسة.
ولكن اللّداية ثالثة الأثافي، لم تكن وحدها التي غيّرت نمط الحياة بالعاصمة السودانية المحطمة، وإنما هناك كثير من أدوات الحياة حوّلت الخرطوم إلي قرية بدائية تعيش في القرون الوسطى. هذا ما أكده عصام الملك الذي قال أن مظهر الخرطوم أصبح قرية ونمط حياتها ريفي، اذ لا يستخدم المواطنين السيارات، انما يعتمدون على الكارو، التكتك في التواصل والتنقل ونقل المرضى وجثامين الموتى إلى المقابر. أما الاطعمة فانحصرت في (القرّاصة، والكسرى والعصيدة) بالإضافة إلى الأرز الذي دخل حديثًا ضمن وجبات المائدة السودانية التي أصبحت فقيرة من الأصناف المرتبطة باللحوم بشقيها الحمراء والبيضاء. وقال (نحن في الخرطوم نعيش حياة القرية بكل تفاصيلها، لا شيء هنا يعطي إحساسا بمظاهر الحياة الحديثة التي توقفت وقطع دابرها أكثر من ستة أشهر عمر الحرب اللعينة).
وعند مشارف سوق حلة كوكو بشرق النيل خرج شاب بعجلة يحمل فوق ظهره جوال سكر وعدد من أكياس البلاستيك ممتلئة بالخضار. هذا المشهد الريفي كان مدهشا في أحياء العاصمة، ويدعو للفرجة، ولكن اليوم بات طبيعيا لا يلفت نظر أحد، مثلما يفعل أصحاب الكارو الذين يحملون المرضى على ظهر الوسيلة إلى المشافي بأسعار رمزية وبعض مرات مجانا.
ويقول عيسى آدم: أصيب رجل في الشارع بمقذوف مجهول في منطقة مايو الخرطوم جنوب الحزام. لم نجد وسيلة سريعة لإنقاذه إلى المستشفى، فاضطررنا الى نقله على ظهر (درداقة) مثل الكرتونة. هكذا هي الحرب لا تعطي الإنسان قيمة.
ويضيف: حياة القرى والريف أفضل من حياتنا هنا في الخرطوم التي تراجعت بشكل مخيف، وأصبحت بدائية اختفت فيها كل وسائل الحياة الحديثة. السيارات باتت نقمة بعدما كانت نعمة. نسى الناس الهوت دوج، السجوك، فراخ بروست، ولم يتذكر أحد المشروبات الغازية بيبسي، ميرندا وكوكاكولا، وليس هناك صفًا للغاز الملعون. وجميع من تبقى في أحياء الخرطوم يتعاونون في كل شئ حتى الأكل بات يتّبع سلوك القرية وما يعرف بالنفير.
وصل الحال عند سكان الخرطوم القرويين أن يتفرجوا على السيارات بدهشة. ويتمنون ركوب (التكتك) ذلك الموتر الذي تمرد على منظومة المواصلات وبات يلبي طلبات التوصيل الخاص بكلفة باهظة نسبة لارتفاع قيمة البنزين، فيما اعتمد الغالبية من السكان العجلات وسيلة شرعية للتنقل. وعند أطراف العاصمة البعيدة أظهرت الحمير شجاعة غير مألوفة يسدون النقص في المواصلات تحت أصوات المدافع والرصاص دون خوف بعد اختفاء مواعين النقل.
وعند مخابز وافران الخرطوم يتكدس الرغيف في الطاولة بعد انخفاض الطلب عليه لأن الغالبية هنا باتت تعتمد بشكل أساسي على (القراصة، الكسرى إلى جانب العصيدة) التي تعد أقدم سلالة الأكلات الشعبية في المجتمعات السودانية القديمة والحديثة.