(دولة الاعتصام): حفريات الروح والبدن
الأصمعي باشري
في ساحة الاعتصام
المتاريس.. آه المتاريس
وهي حد التضاريس
بين ماضي الجفاف على وجه طفل
ومستقبل دفء هذا الزحام
وهي آخر ما نملك من قلعة للمحبة للدفاع عن النهر فينا
وهي آخر ما نسأل الأرض عنه
حين تنوي القيام
بابكر الوسيلة
مثّل سؤال الهوية هاجسا أزليّا، متنقلا من حقبة إلي أخري، دونما الإجابة عليه قطعيّا في حقول الفكر والثقافة والاجتماع السوداني، فما محلهُ في التعريف وماهية متصوراته في السياقات المختصة؟
لم يتحلى المثقف السوداني بالشجاعة الكافية، حيث لم يستطع عقم منهجه القديم، وفخاخ تفكيره السياسي التقليدي في التصدي لأسئلة المستقبل الكبرى. فتاريخيا ظل سؤال الهوية منذ تشكل ونهوض سرديتي سنار ودارفور في القرون الوسطى مرورا مستعمرتي الحكم التركي والبريطاني، وما بينهما في فترة الثورة المهدية كبداية لما يعرف بالدولة الوطنية. ظل هذا السؤال المفصلي عُرضة لإجابات ناقصة ومرتعشة ومترددة أحيانا. بل وصل الأمر في أحيان كثيرة إلي تضليل التاريخ، وتزييف الواقع، كأكبر خطأ ارتكبته مجموعة من البحاثة والمؤرخين الذين انحازوا لثقافة دون الأخرى، ولقوى اجتماعية محددة متجاهلين القوى الأخرى وثقافتها ودورها في مجرى العطاء الحضاري.
اشتدّ الطلب في الإجابة على سؤال الهوية وبإلحاح عقابيل ثورة اللواء الأبيض 1924. بعدها انشغل مثقفو الثلاثينيات والأربعينيات في القرن الماضي بالمحاولة للإجابة ولو كانت خجولة على من نحن؟ بيد أنهم وقعوا في فخ ثنائية عرب اسلاموي وافريقانوي.
أما في الدولة الوطنية لما بعد الاستقلال تراجع بشكل واضح دور المثقف وأنحسر إلي حد ما وجوده، في ظل طغيان صوت السياسي وتمدده. السياسي الذي يفتقر تماما لأدوات الإجابة على مثل هكذا سؤال يتسم بالحساسية المفرطة، والقدرة على تناوله جهرا وبعيد عن ما نسميه في أدبيات السياسة بالمكاسب والخاسرات. غير أن في ذات الفترة، أي ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم تفجر محور السؤال في حقل آخر. بات سؤالا مهما في مجال الآداب والفنون. تشكلت على إثره ما يسمى بمدرسة الغابة والصحراء كتيار حاول الإجابة في خضم صراع سياسي محتدم وتحولات في بنية التطام السياسي، فجاء التيار ضعيفا، وانحسرت موجته برحيل رواد مدرسته، فلا ظهرا أبقوا ولا أرضا قطعوا.
وبطبيعة الحال لا يخفى على أحد ما مارسته سلطة الإسلام السياسي خلال الثلاثين عاما المنصرمة من عمر دولتنا الحديثة، والخراب الذي طال الثقافي والفكري قبل السياسي. فانتشر القبح وتوجهت الدولة الرسمية باسم مشروعها الحضاري لقتل لبنات الوعي بسؤال الهوية فكاد أن يموت لولا اشراقتين اثنين. الأولى حاولها اتحاد الكتاب السودانيين من خلال مؤتمره العلمي اليتيم وسؤاله عن نسبنا الحضاري. والثانية جاءت من خلال الهيئة العامة للثقافة والفنون بامارة الشارقة باستضافتها لمؤتمر تناول الهوية السودانية من منظور الفنون.
ومنذ أن توهجت ثورة ديسمبر المجيدة تعافت الروح السودانية وأستطاب البدن في دولة الاعتصام، التي استدعت حقبا سودانية بتاريخها الناصع وجغرافياها الشاسعة، برمزية ثقافة التنوع والإثنيات المتعددة والحنين إلي ثمانية ألاف سنة من تاريخنا القديم بإرادة ووعي كبيرين. لقد كان الاعتصام فعليا هو كتاب السودان المقدس الذي سطر جمالياته الثوار والكنداكات بالدم والدموع. ورسموا لوحته بريشة التجرد وإنكار الذات والتماهي في صورة الإخر بمحبة تفاعلت داخل إطارها، وامتزجت ألوان الشعوب السودانية بمختلف ثقافاتهم وديانتهم بشكل لم يحدث من قبل. فهل شكلت دولة الاعتصام الكبرى والمغدور بها هوية السودانيين حقا؟