لفتات ساحرة لطفولة بعثتها الحرب
مأمون الجاك
في الأيام الأولى من النزوح، لم تخطر الخرطوم لي ببال، وهذه شنشنة أعرفها من أخزم، أي عادة قديمة فيَّ كلما فارقتُ مكانا أو شخصا.
اعتصمتُ بِكُتُبي، فأعدتُ قراءة قصصِ بورخيس في الجزيرة مرة أخرى، لكن بلا صفاء التجارب السابقة. وقرأتُ شروحَ المعري للمتنبي، ولا أدري أيُ شيطانٍ دفعني لحملِ مسرحيات صمويل بيكيت معي من الخرطوم، لو أنني تركتها هناك، بلا قارئ، لكان خيراً.
تسكعتُ قليلاً في القرية، وحاولتُ قدر الإمكان أن أمشي على ذاتِ طُرقِ طفولتي، علّي أستعيد شيئا منها، أحياناً كان يواتيه الحظ فيسمعُ ويرى، وبالفعل مرة أو مرتين، كانت الطفولة تنتظرني عند مُنعطفٍ ما.
لطالما أبهجني مرأى أبواب البيوت المشرعة، لستُ مُتلصصا، ولكن مُجرد وجود بابٍ مفتوح يكشفُ رخاما في الفناء وأسِرة حديدية تعلوه كان يسُرُني.
شيئاً فشيئاُ سميتُ النجوم وشفيتُ عجزاً قديما، عرفتُ سهيلاً المُحمرِ كوجنةِ الحِبِ والخافقِ كقلبِ المُحِبِ، عرِفته من تشبيه المعري هذا. كالعادة، أعمى يقودني للإبصار. والثريا عرِفتُها، والغيم من النوافذِ العالية، وجلبت أمطارٌ قديمة لقلبي مخاوفَ وأشواقَ قديمة.
انحسرت في حسرةٍ موجةُ القِراءات، عندها مضيتُ إلى مدينة، إلى مدني، وسماءُ المدن في العادة بعيدة، أما سماؤها فكانت قريبة، ففيها شيءُ من نظامِ المدن وفضاءاتها الضيقة المعقلنة، المعدة لاستخدامات وأغراضٍ بعينها. واتساعِ القرى وآفاقها الممتدة نحو الأسطورة، هذا ما رجوته لكن رجائي ما لبث حتى خاب.
قضيتُ ليلةً شربت فيها ويوما تعافيتُ فيه من الشراب ثم عدتُ لقريتي، مررتُ بالحصاحيصا في طريق عودتي كما مررتُ بها في الذهاب، وكنتُ قد زرتها عابرا في الطفولة نحو قريةٍ أخرى، شعرتُ بألفةِ المكانِ وحميميته غير المبررة، وكل عاطفة غير مبررة تقلقني.
في القرية كان البيتُ مزدحما بضيوفٍ مُعَزِين وعُوادٍ لمريض، فانشغلتُ بواجباتِ الضيافة ورهقها، ولم ألقَ لأسابيع مكانا يخصني للقراءة أو التأمل. كان علي أن أستمِع لقصص تُجارٍ نُهِبَت بضائعهم، وآخرين أنقذوا شيئا منها، كل هذا مصحوبا بأباطيل سياسية وآمال ضاعفها الجهل.
بعدها، شيئا فشيئا، اجتاحتني أم درمان، لا تلك التي غادرتها، ولكن أخرى قديمة، كأن الانقطاع عنها بعث ذِكَرَاً كان التواجدُ المستمر فيها يحجُبها، أو لعلها خشيةُ الفقد التام، تذكرتُ صورا قديمة لبيتِنا وحوائط من الطين، وأشجاراً اجتثتها شهوةُ البناء، ومرأى زهرة لعبادِ الشمس أفرغتُ صِباي في تأملها، وأغطية زجاجات البيبسي تسبح في ماءٍ يروي سيسبانة، وظلالاً مُشتَجِرة لشجرةِ ليمون، وزهرَ رُمان، وقِربةَ ماء مُعلقة في عريشةِ جارٍ أعمى كنت أنزلها له كلما زرته، تذكرتُ ميداناً تقلصت ظلالُ عابريه شيئاً فشيئا، وبابا أسودَ لا يزالُ صامدا لكن من كانوا خلفه رحلوا منذ زمنٍ طويل، تذكرتُ أثاثاتٍ قديمة، دواليب من حديد وخشب وملاءات بزخرفتها وألوانها المزعجة، وزهورا بلاستيكية، وساعاتٍ حائطية متعطلة حتى في ذكراها، وكراسي مقاعدها من البلاستيك، والفحيح المُيئِس لحنفية ماء نحاسية.
لم أتذكر أشخاصاً أو لحظاتٍ تجمعني بآخرين أو قصصا، فقط مُتحفا لعاديات جلبتها عدوى الزمن وعواديه. الآن وأنا أكتب هذه الأشياء أتذكر - في ومضات خاطفة - أخرى، لكن ما يعنيني هو ما تذكرته قبل الكتابة، ذاك الانبعاث المفاجئ والعفوي والتسكع البطيء والمدوخ في فراغِ الذِكرى، لا ما يمكن تذكره عن قصد، أو ما هو توقٌ للعالم لأن يصير مكتوباً.
عبارات للشحذ وأخرى للفتنة
لا بد أن المطر قد هطل في هضاب الحبشة
فتنتني هذه العبارة زمنا طويلا، ومنشأ الفتنة في عبارة أدبية يعود إما لتركيبها أو لموضعها في سياق النص، وللسبب الثاني سحرتني هذه العبارة التي يقولها راوي (موسِم الهجرة إلى الشمال)، في الفصل الأول من العمل، يقولها بعد لحظة استغراق تأملي في شأن الوجود. وجود يحاول في هذا الفصل استعادة الصِلة به عبر إيقاظ الأشباح النائمة في روحه. والفصل الأول في مُجمَلِه حكاية عودة يُتوسَل إليها بالمجاز، بدءا من إرخاء الأذن لهديل القماري، وهو الصوتُ الذي تيقن الراوي عند سماعه من حقيقة عودته. ثم نخلة في فناء الدار يحاكي وجودها وجود الراوي، ثم في المقطع الذي وردت به هذه العبارة: النهر بشسوعه وامتداده.
يرجع الراوي إلى ذكرى طفولته، لما ألقى بأحجارٍ لا تُحصى في النهر، وهاهو في هذه اللحظة يتكئ على أشجار الطفولة ويُسرِح بصره في النيل، يتبع هذه النظرات استغراق في التأمل، ثم ترد هذه العبارة كتنبيه آخر لموضع الراوي في المكان حين يلحظ علو مياه النهر: لا بد أن المطر قد هطل في هضاب الحبشة. يتسع وجود الراوي حينها ويمتد ليجاري مجرى النيل.
وانقطعت معايشُ أربابِ القصبِ في ساحلِ البحر
العبارة هذه من (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري، وهي تماثل العبارة الأولى في كونها تجيء كالتفاتة، كانقطاع عن سرد نعيم الفردوس بالإشارة للدنيا، فالرسالة غير منغلقة في العالم الأخروي، ولكنها تراوح بين الدنيا والآخرة: مقايسةً أو عودة للحظة كتابتها: عبر مخاطبة ابن القارح وإخباره بارتباط هذا التخييل بالمشيئة والقدرة الإلهيتين، أو كما في هذه العبارة، التي تلي مقطعا يصف فيه المعري طِيبَ مذاق شراب أهل النعيم، ثم يلتفت التفاتة ساحرة وساخرة لنشاطٍ تجاري قد يكسُد في حالِ أن شيئا يسيرا من عسلِ الجِنان خالط ما عُرِف بمرارة الطعم من أشجار ونباتات الدنيا.
ولو كانت دمشقُ
قالها المتنبي في قصيدته في وصف شِعبِ بِوان في فارس، وهي من أخريات قصائده، نظمها في مدحِ عضُد الدولة، ونلحظ فيها قلق المتنبي من الجميل، فبعد أبياته في التغني بالشِعبِ وجمالِه وطِيبِه، تصرِفه الذكرى إلى زمانه في دمشق، كأنه يقول: آه، لو كانت هذه دمشق، أو كقولِ قيس حين زُينَت له امرأة لينسى ليلى فقال: لتُشبِه ليلى ولكن لا، ليست هي، وهذه ليست دمشق.
شيء ما في جسمِ ابنِ رُشد، الذي جاء أجداده من الصحارى العربية، كانَ يُسَر بتدفق الماء.
هذه كسابقاتها، عبارة ترد في سياق قصصي، يقولها راوي قصة (بحث ابن رشد) لبورخيس، وتكمن فتنتها في التحول المفاجئ في الحكي من استغراق -شبيه باستغراق راوي (الموسم) في التأمل)- في التفكير والكتابة، أي من نشاطات ذهنية، إلى إدراكٍ بهيج للجسد، وموضعه في الزمان والمكان، فابنُ رشد كما يحكي بورخيس كان مستغرقا في حجاج آراء الغزالي ودحضها، مسرورا باتصالِ ردوده عليها وإحكامها، وفي غمرة ذلك الانشغال يعيده هديلُ حمائم وصوت تدفق مياه نافورة للحظته الحاضرة، ويُسر بتلك الأصوات، لينصرِف ذهنه إلى موضعه في المكان: داره الواقعة في قرطبة المترامية الأطراف، وتعاوده ذكرى الصحراء ومسراتها كمعاودة دمشق للمتنبي، الذي رغِب عند الذكرى في ثني عنانِ فرسِه، في الاستراحة في غمرةِ الجميل، لا استزادة وإنما إعراضاً.
أَحَقّاً عِبادَ اللَهِ أَن لَستُ سامِعاً،
نَشيدَ الرُعاءِ المُعزِبينَ المَتاليا
والبيت للشاعرِ الجاهلي عبد يغوث، يقولهُ بعد أن استيقن من قتلِه، ومن بين جميع ذِكَرِ حياتِه، يلتفت إلى صوتٍ شجي: حداء الرعاة لإبلهم ليسوقوها، التفاتة لصوتٍ لن يسمعه مرةً أخرى، وبرغمِ أني لم أسمع قبلاً حداء إبل، إلا أن هذا البيت في التحسُر على الحياة المنقضية سحرني بتساؤله المستجدي اليائس: أحقاً؟ ومرة أخرى يكونُ الصوت لا الشكل أو الصورة هو ما يُفتقد من الحياة ويشوق العائد إلى بيته كما في (الموسم)، أو المستغرق في الكتابة وأعمال الذهن كما في (بحث ابن رشد)، أو الموقنِ بموتِه الوشيك والمُجهَز للقتل كما في قصيدة عبدِ يغوث.