القضايا الأساسية التي يجب أن يعالجها الدستور الديمقراطي
من كتيب للتثقيف المدني حول السلام والدستور والانتخابات
إعداد: مركز الطريق
هناك جملة من القضايا التي تجد أساسها القانوني في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يعتبر وثيقة عالمية تستلهم الضمير الإنساني في أي بقعة من العالم. كما هو الحال في بقية الاتفاقيات الدولية التي أصبحت الدولة طرفاً فيها، حيث لن يكون من المقبول إطلاقاً أن تأتي عملية صناعة الدستور والمحتوي الناتج عنها بما يخالف الالتزامات الدولية. ولضمان ذلك علي صناع الدستور الانتباه للقضايا ذات الصلة بتحقيق الأهداف التالية:
1) تعزيز وحماية كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته
يجب أن تُبني عملية صناعة الدستور والمضامين الناتجة عنها في محتوي الدستور على هدف تحقيق المبادئ والحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية الأخرى التي تضمن لجميع الناس كل الحريات والحقوق في إطار المساواة انطلاقاً من أنهم جميعاً (يولدون أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق)، حيث عمدت كل الوثائق الدولية التي أصبح السودان طرفاً فيها، وبخاصة تلك التي تنظم الحقوق والحريات على تأكيد احترام كرامة وحقوق وحريات المواطنين وتأكيد كرامتهم، وتحقيق العدالة بكافة صورها للجميع دون أي شكل من أشكال التمييز.
2) ضمان أن يظل زمام الحكم بيد الشعب
في الدستور الديمقراطي تكون إرادة الشعب هي أساس سلطة الحكم والتي تكرسها انتخابات حرة، نزيهة ودورية. لذا يستوجب علي الدستور الجديد الإقرار بان مصدر السلطة هو الشعب، وأن يحترم ويضمن ويحمي هذه الإرادة، بأن يضمن حق كل شخص بالتساوي مع الآخرين في تقلد الوظائف العامة في بلده. وأن يضمن ممارسة هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري حيث ضمان حرية التصويت. وأن يكون لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها وان تكون حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ويعد ضمان تحقيق هدف أن يظل زمام الحكم بيد الشعب مبدأ أساسي للدولة المدنية الديمقراطية لا يجوز أن تتم صناعة دستور ديمقراطي بما يخالفه.
3) تأكيد سمو الالتزامات الدولية
إن الدولة الحديثة، و بحكم العلاقات والمصالح المتقاطعة في عالم اليوم، أصبحت جزء من مجموعة دولية، تحكمها اتفاقيات دولية، صار لها من القوة والإلزام ما يجعل الدولة محكومة بقواعد قانونية منتجة خارج مؤسساتها الوطنية، والحكومات الوطنية ترث تلك الالتزامات الدولية وتعمل على إنفاذها. وأصبحت هذه المبادئ القانونية التي تنادي بها الاتفاقيات الدولية تكتسب وضعاً قانونياً يسمو ويعلو على الدساتير الوطنية. لذا تحرص الدساتير الديمقراطية على تضمين تلك المبادئ في دساتيرها الحديثة تأكيداً لذلك السمو، وضماناً على عدم تعارض الدستور مع الالتزامات الدولية.
هكذا فإن الاتفاقيات التي وقعت عليها حكومة جمهورية السودان، وكافة الالتزامات القانونية الدولية يجب أن تنعكس أحكامها من خلال الدستور الجديد، بحيث لا يتعارض الدستور مع أحكام اتفاقية دولية، السودان طرف فيها. ويجب أن يشمل هذا الاحترام لسمو الالتزامات القانونية الدولية أيضاً العرف الدولي أي القانون الدولي غير المكتوب، الذي رسخت أحكامه من خلال التطبيق الدولي المضطرد والقبول الدولي الذي حظيت به الأحكام العرفية بحيث أصبحت قواعد ملزمة للكافة، برغم إنها ليست اتفاقية مكتوبة ولم توقع عليها الدولة السودانية بالضرورة، برغم ذلك هي ملزمة للدولة السودانية ويجب ألا تأتي أحكام الدستور بما يخالف تلك القواعد الدولية الغير مكتوبة أيضاً.
4) فصل السلطات وضمان استقلاليتها
إن فصل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها البعض هو مبدأ قانوني ديمقراطي، تلخصه المقولة المشهورة للفيلسوف الفرنسي مونتيسكيو (1689- 1755) (السلطة توقف السلطة). وهو مبدأ يستهدف الوقوف ضد الاستبداد الذي عادة ما يركز كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد الحاكم المستبد، ويقر السلطة المطلقة له. فيجعل التشريع والقضاء في خدمة أقلية محدودة تحكم وتمتلك الثروات والموارد بالنهب ولا تعترف بأية مبادئ أو سلطة غير سلطتها.
إن وجود مبدأ الفصل بين السلطات وضمان استقلاليتها عن بعضها البعض في الدستور يحقق مبدأ رقابة السلطات لبعضها البعض، ويمنع طغيان سلطة على السلطات الأخرى ويحقق التوازن في القوة بين السلطات، وبما يضمن استقلال القضاء ويحفظ للسلطة القضائية استقلالها الدستوري. لذا في سياق صناعة الدستور الديمقراطي لابد من النص علي مبدأ الاستقلال الوظيفي للقضاء، حيث أنه من النصوص التي تكاد تكون محل إجماع فقهاء الدساتير تلك النصوص التى توجب استقلال القضاء استقلالاً دستورياً. وذلك بأن تكون السلطة القضائية منفصلة ومستقلة ولا رقابة عليها من السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولجأت بعض الدساتير للنص علي أن القضاة مستقلون في أداء واجباتهم ولهم الولاية القضائية الكاملة فيما يلى اختصاصاتهم ولا يجوز التأثير عليهم فى أحكامهم.
في مواجهة تحدي تطبيق مبدأ استقلال القضاء يرى فقهاء الدستور إنه يتعين الفصل بين السلطات الثلاث وامتناع أى منها عن مباشرة أي تأثير غير دستورى على السلطة الأخرى فى مزاولة اى منها لاختصاصها. والجدير بالإشارة أن هذا الفصل بين السلطات لا يعني عدم تعاونها مع بعضها البعض في المصلحة العامة، بل إن تعاون كل سلطة منها مع الأخرى من موقع مستقل هو شرط مطلوب لنجاح كل سلطة في تجويد عملها.
في الواقع يحتاج إنفاذ مبدأ الفصل بين السلطات إلي مناخ سياسى مدرك أسس المجتمع الديمقراطى، وإلي وجود فاعل لقوى سياسية تؤمن باحترام الدستور وتعمل على إنفاذه. كما أن ممارسة الوظائف القضائية باستقلالية وتجرد ودون خشية أو محاباة يتطلب بالضرورة النظر في تحديد السلطة التى تمارس اختصاص تعييين القضاة وترقيتهم ومحاسبتهم وعزلهم.
5) عدالة توزيع السلطة
الكثير من البلدان شهدت سنوات عسيرة من عدم الاستقرار بسبب سوء توزيع السلطة بين مكونات الدولة الاجتماعية و السياسية. ويتخذ ذلك مظهراً دستورياً تحتكر فيه القرارات بواسطة فئة أو جماعة سياسية أو اجتماعية محدودة. من القضايا المهمة في الدستور قضية توزيع السلطات سياسياً وادارياً لأكبر عدد من المواطنين، وجعل السلطة العامة هم شعبي عام، تتوزع فيه السلطة على القدرات البشرية المتاحة، بما يحد من المركزية السياسية والادارية والطبقية المتحكمة.
6) تحقيق التوازن في اقتسام الثروات و الموارد
في الدساتير الغير الديمقراطية، يكون هناك دائماً مركز، تديره فئة قليلة، تتحكم في موارد البلاد، و تحتكر الثروات وتُهيئ من القوانين ما يحمى تلك الملكيات، ويضمن نموها لمصلحة الجماعة المهيمنة، مما يولد الغبن ويعطل التنمية ويهدد الاستقرار ويخلق التباين الطبقي الحاد ويكرس الفقر وسط المجموعات الإنتاجية القاعدية.
وإزاء ذلك تواجه عملية صناعة دستور جديد في السودان، كما في كثير من الدول المشابهة، تحديا يتمثل في إقامة نظام للحكم قادر على تعظيم قيمة الدولة ودعم قدراتها في الاستخدام الأمثل للموارد وتعزيز المساءلة وحسن توزيعها وإدارتها، وضمان ﺃﻥ ﺍﻷموال ﺍﻟﻌﺎمة لن تهدر ﺃﻭ يساء استخدامها، بل سيتم توظيفها في تعظيم نتائج ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ الوطنية.
وفي الواقع أن الرفاه الجماعي، هو أحد القضايا المهمة في الدساتير الديمقراطية الحديثة المؤسسة وفق المعايير الدولية. وقد أشرت أهداف التنمية المستدامة SDGs التي التزم قادة العالم بتحقيقها بنهاية عام 2030، محاور أساسية تحقق التوازن في اقتسام الثروات من خلال المساواة والحد من التمييز، ومن خلال إعطاء أولوية للتنمية الشاملة القائمة علي العدالة والقضاء علي الفقر.
الدستور الديمقراطي يجب أن يسعي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن يحترم ويضمن ويحمي تعبير المواطنين أفراداً ومجموعات عن مصالحهم وآمالهم وتطلعاتهم في ضمان حقوقهم التى نظمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فيما يتصل بالضمان الاجتماعي لكل أفراد المجتمع. وحماية الأشخاص من العطالة، والأجر العادل والرفاه الاجتماعي، ورعاية الأمومة والطفولة والتغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية والخدمات الاجتماعية اللازمة. والحق في تأمين معيشة الأشخاص في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة وغير ذلك من فقدان وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن الإرادة.
7) فعالية إدارة التنوع و كفالة حقوق الأقليات
مجموعة هائلة من دول العالم تتمتع بالتنوع الثقافي والاجتماعي والديني واللغوي والإثني والسياسي، وغير ذلك، حتي صار من المعلوم أن استيعاب ذلك التنوع في عملية صناعة الدستور ومحتوى الدستور الناتج عنها أمر ضروري. بل لازم في سبيل تحقيق الاستقرار والتنمية والتعايش الاجتماعي السلمي. و ربما كان غياب ذلك الاستيعاب هو أحد الأسباب الرئيسية في اندلاع العديد من النزاعات الداخلية، كما كان سبباً – ضمن أسباب أخرى – في انفصال جنوب السودان عن شماله في يوليو 2011.
إن الدستور الديمقراطي يجب أن يؤسس لحق المجموعات السكانية المتميزة، وذات الخصوصية في أن تجد رعاية خاصة من الدولة. وأن تهيئ الظروف المناسبة لضمان مشاركتهم في السلطة، وفي اتخاذ القرارات في الدولة، وفي تقاسم الثروة بشكل عادل مع غيرهم من مواطني الدولة المعنية.
بعض الوثائق الدولية نظمت هذا الأمر وجعلت على الدولة التزامات معينة، متى ما تحققت تلك الالتزامات تحقق الأمن والاستقرار والتنمية والتعايش السلمي في الدولة. من بين تلك الوثائق، إعلان الأمم المتحدة بشان حقوق الشعوب الأصلية المعتمد في 13 سبتمبر 2007، حيث تنص المادة الأولى على أن (للشعوب الأصلية الحق في التمتع على النحو الأوفى وبصورة فعالة بجميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها في ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والقانون الدولي لحقوق الإنسان). وتضيف المادة 19 أن (للشعوب الأصلية الحق في المشاركة التامة باختيارها في جميع مستويات اتخاد القرارات المتعلقة بالمسائل التي تؤثر على حقوقها وحياتها ومصيرها من خلال ممثلين تختارهم بنفسها وفقاً لإجراءاتها الخاصة وكذلك الحق في صيانة وتنمية مؤسساتها الأصلية الخاصة التي تقوم باتخاذ القرارات). وجاء في العهد الدولي بشأن الحقوق المدنية والسياسية 1966، في المادة الأولى (لجميع الشعوب حق تقرير مصيرها بنفسها وهي بمقتضى هدا الحق حرة في تقرير مركزها السياسي وحرة في السعي لتحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي).
8) ضمان مراعاة النوع الاجتماعي
الدستور الديمقراطي يحترم الكرامة الإنسانية لكل من المرأة والرجل على حد سواء. ويوفر فرصاً قانونية للنهوض بحقوق النساء والرجال معاً، حيث يراعي الفوارق النوعية بين النساء والرجال في المضامين واللغة المستخدمة. ويقر بأنه لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية كاملة بدون مشاركة متساوية للمرأة في جميع جوانب الحياة العامة. ويلزم الدولة بوضع تدابير علي المدي الطويل للوصول لمجتمع متوازن لا يشكل النوع الاجتماعي عائقاً يحول بين فئات المجتمع وتمتعهم بكامل حقوقهم الإنسانية.
الدستور الديمقراطي يتبع لغة دستورية حساسة للفوارق بين النساء والرجال، اعترافاً بأن لدى النساء احتياجات ومصالح مختلفة تستحق الاحترام المتساوي في الدستور. وأن المرأة والرجل متساويان في القيمة لكن ولأسباب تاريخية، نتيجة لعدم وجود مساواة بينهما في المكانة ومساواة في الحصول على المعرفة وعلى الموارد، فإن المرأة تحتاج إلى معاملة خاصة وإجراءات إيجابية، قبل اعتبار أن هناك تساو بينها وبين الرجل في (نقطة البداية). حيث توفر أحكام المساواة بين الجنسين في الدستور أساساً قانونياً للمعاملة والإجراءات التي تمهد لتمكين النساء بمزيد من التشريعات والسياسات والقرارات المستجيبة للحقوق المتساوية للمراة.
هنالك طريقتان للوصول لدستور يراعي قضايا النوع الاجتماعي: الطريقة الأولي أن يحتوي الدستور القادم على وثيقة منفصلة تنص وتفسر فيها حقوق المرأة صراحة. أما الطريقة الثانية فهي أن يتم إدماج كل النقاط التي تضمن حقوق المرأة وتحميها من كافة أشكال التمييز والعنف داخل مواد الدستور.
ولضمان نفاذ حقوق المرأة الدستورية هنالك بعض التدابير يجب أن توضع بعين الاعتبار وتنفذ على مستوى الدول والحكومات:
تنفيذ إطار حقوق المرأة
إنشاء آليات وطنية للمساواة النوعية
محاربة العنف ضد المرأة بآليات واضحة ومباشرة
محاربة العقلية الذكورية وتبني اللغة والأعراف التي تراعي النوع الاجتماعي
إنشاء آليات وطنية تختص بالكوتا والتمييز الإيجابي
كما يجب ان يدرك صناع الدستور كل انعكاسات العوامل الاجتماعية والثقافية التي تشكل وتحدد التمييز القائم على النوع. وأن يتسق مع أهداف التنمية المستدامة ومن قبلها أهداف التنمية للألفية التي تضمنت رسالة واضحة تعبر عن أهمية المساواة النوعية واعتبارها هدف أساسي تسعى كل الدول لتحقيقه وصولاً لرفاه مجتمعاتها. كما يستوعب التزام الدولة بضمان حق المرأة في المشاركة في الحياة العامة وفي صنع القرار السياسي والاقتصادي باعتباره حق تضمنته العديد من المواثيق الدولية التي التزم بها السودان أهمها:
- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تنص مادتها 7 على أنه يجب على الدول ضمان حقوق المرأة، على قدم المساواة مع الرجل، التصويت في جميع الانتخابات والاستفتاءات، والمشاركة في صياغتها وتنفيذها لسياسة الحكومة، وتقلد المناصب العامة على جميع المستويات،
- منهاج عمل بكين لعام 1995، الذي يدعو إلى تمكين المرأة وتمكينها الكامل المشاركة على أساس المساواة في جميع مجالات المجتمع، بما في ذلك المشاركة في عملية صنع القرار والوصول إلى السلطة (النقطة 13)،
- قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة 1325 (2000)، الذي يدعو الدول إلى زيادة عدد تمثيل المرأة في جميع مستويات صنع القرار،
- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن المشاركة السياسية للمرأة (A / RES / 66/130) لعام 2011، التي تؤكد من جديد أن المشاركة الفعالة للمرأة، على قدم المساواة مع الرجل، على جميع المستويات من صنع القرار ضروري لتحقيق المساواة والتنمية المستدامة، السلام والديمقراطية.