إخراج (الدعم السريع) من (السكنات) وعودة (الجيش) إلى (الثكنات)
محمد عبد الماجد
يقول الأديب الروائي والشاعر الأردني إبراهيم نصر الله: (أسوأ ما قد يحدث لنا، أن يغدو المشهد مألوفاً).
يبدو أنّنا في الطريق إلى ذلك، أسوأ من الحرب الدائرة الآن بين الجيش، وقوات الدعم السريع أن تصبح (مألوفة) لنا وأن نتطبع مع الموت والانتهاكات والظروف الصعبة التي فرضتها الحرب.
أطفالنا تعايشوا مع صوت الرصاص، وأصبحت صور الموتى والدمار الذي خلّفتها الحرب لا تُثير فيهم خوفاً أو هلعاً.
أطفالنا لم تعد تدهشهم الطائرات التي تُحلِّق فوق رؤوسهم، ولا تعنيهم الدانات التي تقع أمام أعينهم في شيءٍ، لقد تجاوزوا زمن الدهشة منها! نحن أصبحنا نعيش بدون (مرتبات) وتمضي حياتنا على هذا المنوال الصّعب بشكل مألوفٍ ومُعتادٍ.
إذا لم نرفض هذه الظروف ونقول: (لا للحرب) بقوة وحسم ومسؤولية، سوف تصبح هذه الحرب جُزءاً منّا وسنجعلها طبيعة لنا، خاصّةً وأنّ حرب السُّودان أصبح لها ثقافة واقتصاد ولغة، بل إنّ هذه الحرب أصبح لها أنصارٌ ومُؤيِّدون يدعون باسم الوطن لإشعالها وعدم إيقافها، حتى إنّ الدعوة لها أصبحت من مكسبات (الوطنية)، ومن دواعي (الدبلوماسية) والحياة! صارت مقولة (لا للحرب) من علامات الخيانة العُظمى.
لا أدري ما هو المصطلح الأقرب لوصف الحال؟ وقد حاولنا كثيراً أن يسعد النطق إن لم يسعد الحال، لكن وجدنا أن التغيّب يحدث بسبب غياب الحقيقة وعدم وضع النقاط على الحروف والسودان يشهد تراجعاً وانهياراً يوماً بعد الآخر، ومازالت لغة التخدير والتسويف هي السائدة وهي العليا، ليتم التعامل مع الواقع بشيء من الاستهتار واللا مبالاة.
الضبابية لن تقودنا إلّا للضياع. الهروب من الحقيقة لن يجلب لنا الانتصار، ومُغالطة الواقع أمرٌ يمكن أن يكون أسوأ من الواقع نفسه، حتى وإن كان الواقع هو الذي نعيشه في السودان الآن. نعم دعونا نتعامل مع الواقع كما هو، وليس كما نشتهي. لا تجعلوا عالمنا هو العالم (الافتراضي) الذي تغيب فيه الحقيقة ويتلاشى فيه الصدق.
لم نحسن التعامل مع حرب السودان، لأنّنا لم نحسن تقدير الأزمة، ولأنّنا تركنا لمن أشاعوا، بل أكّدوا أنّ الحسم سوف يكون خلال ٤٨ ساعة أن يُحدِّدوا مصيرنا، لقد كانوا يجزموا أن الحسم سوف يكون في الساعات القادمة، وهي ساعات للأسف الشديد يبدو أنّها سوف تكون دائماً في علم الغيب وهي (قادمة) والسلام، هكذا مُطلقاً من باب الخداع والتخدير. أيِّ ساعة إضافية في هذه الحرب، نحن نخسر فيه المزيد ونفقد الوطن ينزف مع أيِّ ساعة قادمة. علينا أن نُسمِّي الأشياء بحقيقتها دون تزييف أو تجميل.
تحدث الصّحفي يوسف العقيد عن الجدل والحوار الذي دَارَ بين عبد الناصر وهيكل في ليلة التنحِّي حول التعبيرات اللغوية، التي يُمكن أن تستخدم في مثل هذا البيان التاريخي. فقد كان عبد الناصر مُصِرّاً على استخدام كلمة (هزيمة)، في حين أنّ هيكل نحت كلمة (نكسة). نحن الآن في السودان نعيش في زمن (الخيبة).
لقد كانت السُّلطة المصرية وإعلامها والشعب المصري كله يتحدّث في حرب الأيام الستة عن انتصار الجيش المصري وسحق العدو الإسرائيلي، ليجدوا أنفسهم بعد ذلك في (النكسة) التي وصفت بها نهاية الحرب بين الجيش المصري والعدو الإسرائيلي. تلك الحرب التي عُرفت بحرب الأيام الستة انتهت بـ (النكسة).
ترى ما هو المصطلح الأمثل الذي يمكن أن نصف به حرب الأشهر الستة؟، ونحن نقترب من إكمال الشهر السابع في الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع؟
كثيرون كانوا يدعون لحكم (العسكر) وكانوا يستكثرون على المدنيين (السُّلطة)، ويصفون تنافسهم وحوارهم (السلمي) نوعاً من الفوضى. وكان رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان يسخر من المكون المدني ويندب تراشقهم (اللفظي)، ويعتبر ذلك الأمر (تشظياً) سوف يؤدي إلى تفتت السودان.
استكثر البرهان على الأحزاب السياسية والمكونات (المدنية) طبيعة تنافسهم الديمقراطي والسلمي، وأبعد شركاءه في المُكوِّن المدني من السُّلطة لتخلص لهم الحكومة ولتصبح الكلمة العليا هي كلمة (البندقية). في القصر الجمهوري حشدوا كل المُكوِّنات (العسكرية) من الجيش والدعم السريع والحركات المُسلّحة. كان طبيعيّاً في ظل هذه الحُشود العسكرية الموجودة في القصر أن تقع الحرب. فقد كانوا كلهم يتسابقون ويتنافسون على كراسي السُّلطة. البرهان وحميدتي انقلبا على حكومة حمدوك، ومناوي وأردول وجبريل انقلبا على الحرية والتغيير.
ماذا تنتظرون من حكومة قائمة على الانقلاب، ما بني على انقلاب لن يؤدي إلّا للانقلاب؟
يوم أن كان الاتفاق يجمع بين الجيش وقوات الدعم السريع، عبر حكومة المجلس العسكري وقعت مجزرة فَضّ الاعتصام في مُحيط القيادة العامة. ذلك (الاتفاق) دفع ثمنه (الشعب السوداني)، والشعب يدفع الآن ثمن (الاختلاف) الذي حَدَثَ بَينَ الجيش وقوات الدعم السريع عبر حرب لا تبقي ولا تذر. حرب يروح ضحيتها المدنيون في الخرطوم وفي دارفور وكردفان وكل أنحاء السودان.
القصر الذي انقلب على حكومة حمدوك في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١م، يشهد الآن حرباً طاحنة بين مُكوِّناته العسكرية، والقيادة العامة التي شهد مُحيطها مجزرة فَضّ الاعتصام تقع تحت الحصار القاتل الآن. لا نقول إنّ هذا عقابٌ، لأننا كلنا ندفع ثمن هذا العقاب، ولكن نقول هذا درسٌ يجب أن نستفيد منه، ويجب أن ترد السُّلطة إلى المدنيين بعد أن دخلت الحرب بين العسكريين في الشهر السابع.
تصريحات البرهان الأخيرة برد السُّلطة للمدنيين جديرةٌ بالاحترام والدعم والمُساندة رغم مُحاولات الفلول الدائمة لاستمرار الحرب وإشعال السودان. مفاوضات جدة التي تدور هذه الأيام بين الجيش وقوات الدعم السريع تحت مظلة السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، يجب أن تفضي بخروج قوات الدعم السريع من (السكنات) والمرافق العامة والأسواق والطرق، كما يجب أن تعيد هذه المُفاوضات، الجيش إلى (ثكناته).
إذا لم ترد السُّلطة إلى حكومة مدنية كاملة فلا تحلموا بالسلام والأمان. هذه الحرب أفسدت العلاقات بين المُكوِّنات العسكرية في السُّلطة، وأصبح من الصّعب أو من المُستحيل الجمع بينها في حكومة واحدة. بناء جيش قومي واحد وقوي ومهني وله هيبته ومكانته لن يتم إلّا بعودة الجيش إلى ثكناته. الجيش مكانه في القيادة العامّة وليس في القصر. لهذا فإنّ الجيش القومي القوي والمُوحّد لن يكون إلّا إذا ابتعد الجيش عن السُّلطة ونفض يده من السياسة. قوات الدعم السريع مكانها في الحدود وليس في المُدن والمساكن الشعبية.
الأمر الغريب ومع أنّ الحركات المسلحة شريكٌ في السُّلطة وترى ما يحدث في الخرطوم وفي دارفور، فقد تبرأت حركة تحرير السودان بقيادة مني أركو مناوي وحركة العدل والمساواة برئاسة جبريل إبراهيم من بيان للحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، وصف قوات الدعم السريع بالمليشيا المتمردة، ودعا لمحاسبتها على جرائم ارتكبتها بحق المدنيين، في تطوُّر من شأنه تأجيج النزاع بدارفور.
مناوي وهو حاكم إقليم دارفور الذي يشهد حرباً ضروساً بين الجيش وقوات الدعم السريع، وجبريل إبراهيم وهو وزير المالية في الحكومة التي تُحارب في الدعم السريع وتصفه بالقوة المُتمرِّدة، رفضا إطلاق كلمة (مليشيات) على قوات الدعم السريع، في الوقت الذي تهاجم فيه الحكومة (الحرية والتغيير) رغم بياناتها التي أدانت فيها انتهاكات الدعم السريع ورفضتها بشكل واضح وقاطع.
كيف يحدث الانتصار في الحرب؟ إذا كانت هنالك مُكوِّنات في الحكومة ترفض وصف قوات الدعم السريع بالمليشيا؟
أمّا الهادي إدريس وحجر فقد كان موقفهما أوضح من ذلك، بل إنهما اُتّهما بميلهما ودعمهما لقوات الدعم السريع. أما مالك عقار فقد تَـمّ ترفيعه إلى منصب حميدتي ليكون نائباً لرئيس مجلس السيادة، لذلك هو لم يتوان في الهجوم على قوات الدعم السريع، وهذ أمرٌ طبيعيٌّ، لأنه يدافع عن منصبه الذي ترفّع إليه بعد الحرب. الصِّراع في السُّلطة يبدو واضحاً أنه صراع مناصب وكراسي وأشياء أخرى.
الدعم السريع بعد المساكن والمشافي، حوّل حربه الى المنشآت وحقول النفط والمطارات وهذا ضربٌ لمؤسسات البلد ومواردها، وتدميرٌ لثروات الدولة بعد نهب ثروات الشعب!
انتهى!!
أبو إبراهيم