السودان تطاير أوراق الصحف بفعل الحرب
الزين عثمان
منذ الخامس عشر من أبريل لم يغادر الرجل السبعيني منزله نحو مقر عمله الكائن تحت ظلال الشجرة التي يطلق عليها شجرة "الجرايد" بمدينة كوستي جنوب السودان. يمتهن الرجل مع الآلاف، بامتداد السودان، بيع الصحف اليومية التي تطبع في العاصمة الخرطوم.
بسبب الحرب المشتعلة منذ منتصف أبريل فقد الآلاف وظائفهم ومن ضمن هؤلاء ما يطلق عليهم "السرّيحة". وهم فئة تقوم بتوزيع الصحف اليومية، وهي فئة تضاف لفئة الصحفيين العاملين في هذه الصحف. وكانت تطبع في الخرطوم يومياً ما يزيد عن عشرة صحف يومية سياسية وأخرى متخصصة، وتوقفت كلها عن الصدور بسبب الحرب، وفقد معظم العاملين فيها وظائفهم وذلك بسبب توقف المطابع.
المفارقة أنه، وفي ظل الحرب التي تدور في الخرطوم، توقفت ايضا صحف محلية كانت تصدر من مدينة بورتسودان التي انتقلت إليها أعمال الحكومة، وذلك لان ثلاث صحف كانت تصدر في المدينة كانت تتم طباعتها في مدينة الخرطوم.
في وقت سابق كانت معظم الصحف الورقية الصادرة في الخرطوم تطبع في المطبعة الدولية، وهي استثمار يخص جهاز المخابرات العامة، قبل ان تنتقل عمليات الطباعة، عقب الثورة التي أطاحت بالنظام السابق، إلى المطبعة العسكرية في منطقة كرري العسكرية التي تشهد الآن مواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.
في سياق التأثيرات المترتبة عن الحرب في السودان، بات السودانيون محرومون من متابعة أخبار بلادهم عبر الصحف اليومية، التي كانت تملك قوة تاثير يتجاوز بكثير مؤسسات الاعلام الحديث، وذلك لطبيعة المجتمع خصوصاً خارج العاصمة. ووفقاً لمراقبين فقد لعبت الصحافة السودانية دوراً محورياً في تعرية نظام البشير قبل الإطاحة به بواسطة الشعب.
باستثناء ظهور خافت وباهت في مواقع التواصل الاجتماعي، أو عبر المواقع الرسمية لبعض أسماء الصحف السودانية، فإن المشهد برمته يؤكد على فرضية رئيسية مفادها ان غياب الصحف اليومية في بلاد تعيش الموت على مدار الساعة، مرتبط في الأساس بغياب المطابع، مقروناً بغياب الكوادر التي كانت تنجز العملية الصحفية. ورغم أن تراجع الصحف والمطبوع منها في السودان كان قد بدأ منذ جائحة كورونا لكن جاءت الحرب لتجهز عليها تماماً.
لنصف عام والسودان بلا صحف، وهي بلاد سبق قيام الصحافة فيها قيام الدولة بحدودها وسيادتها. فتاريخ الصحافة السودانية تجاوز القرن من الزمان. ولا يبدو الغياب الأخير مرتبطاً فقط بعدم وجود مطابع قيد العمل، وإنما يضاف إليه عوامل أخرى تتعلق ببيئة السودان في ظل الحرب، وبيئة الخرطوم العاصمة التي كانت تستأثر بانتاج الصحافة، اذ أن معظم مواقع الصحف السودانية تقع في قلب منطقة الاشتباكات في المنطقة القريبة من القيادة العامة والقصر الجمهوري. كما أن التقارير الصادرة عن نقابة الصحفيين السودانيين، وعن شبكة الصحفييين السودانيين، تشير لحالات متعددة من الانتهاكات التي مورست عليهم من طرفي النزاع، مما دفع الكثيرين منهم لمغادرة العاصمة التي لم تعد صالحة للحياة.
لنصف عام والبلاد بلا صحف يومية، والخبر الأساسي فيها هو أن المؤسسات التي كان يعمل فيها الصحفيون لم تدفع لهم رواتبا منذ انطلاق أول رصاصة. وان معظم الصحفيين غادروا الخرطوم على عجل، وانخرطوا في أعمال أخرى في المناطق التي نزحوا إليها، فلم تعد هناك صحف.
لن يغادر عم أحمد منزله للذهاب إلى حيث الشجرة في انتظار الصحف التي غابت هذه المرة بفعل الحرب فقط، بل لأن شخصا آخر يبيع ملابس وأواني منزلية بات يجلس في ذات المكان الذي كان يجلس فيه لبيع الصحف. هذا الآخر كان، وحتي الخامس عشر من أبريل صحفي قبل أن تجبره الحرب على تغيير مهنته من أجل الحصول على ما يسد رمقه ورمق أسرته.