``وداعاً جوليا``: السينما تهزم الكراهية
خالد ماسا
بينما تُقدِم سينما الحرب عرضها المأساوي على شاشات مُدُن الخرطوم والجنينة ونيالا وزالنجي والأبيض لمدة تقارب السبعة أشهر، ويحجز دُعاة إستمرارها المقاعِد الأمامية في دُور العرض هذه، آملين في أن يّنافِس فيلم "حرب أبريل" أفلاما تُعرض الآن في "غزة" وغيرها على جائزة الأوسكار العالمية في الخراب والإنتهاكات، كان للقوة الناعمة السودانية رأي آخر بأن توقد شمعة في آخر نفق الأزمة السودانية بعرض إنتاج سوداني مختلف يُمثل عصارة الفن السينمائي الاصيل.
اتيحت للسودانيين من غير الذين حبستهم ظروف الحرب داخل الولايات المتاثرة بالحرب أو أؤلئك المشغولين بالصراع اليومي لأهوال النزوح، فرصة مشاهدة فيلم "وداعاً جوليا" الذي حجز مكانة بين جداول عروض الافلام في القاهرة. ونجزم بأنهم قد شاهدوا العرض بمشاعر "الناجين" من ويلات الحرب، والمكتوين بنار اللجوء والحزانى على وطن مزقته الحرب وفرقت شعبه خطوبها.
أقرأ في ردود أفعال السودانيين الذين شاهدوا عروض فيلم "وداعاً جوليا" للكاتب والمخرج الرائع محمد كردفاني، وإنتاج المبدع أمجد أبو العلا، مقدار إعتزازهم بصعود الإنتاج السوداني لخشبة المنافسة على الجوائز العالمية كمهرجان "كان" وفي ذات الوقت إحساسهم بأن المحتوى المعروض يخاطب وجدانهم الوطني. وتُخاطِب مشاهده قصصاً عاشوها أو يعيشها ذويهم حالياً والملح المُر على الخدود بسبب عزيز مات أو بيوت أنتهكت أعراضها أو حتى ذكريات طمسها الرصاص.
"وداعاً جوليا" وبعيداً عن قوالب "التسطيح" التي تسعى قوى الظلام على وضع الفن فيه، ليرعى ويخدم كل الطاقات السلبية في وجدان العام السوداني، فتح باب الإجتهاد للفن السوداني ليكون شريكاً أصيلاً في عمليات بناء الوعي والتنوير. وإختار لمحتواه قضايا مهمة كقضية العنصرية والكراهية لتتم معالجتها بعبقرية الكاتب والمخرج والمنتج وطاقم التمثيل في هذا الفيلم فجعلوا من الفن السينمائي إصطفاف وعي وتنوير ضد كل مخرجات الحرب.
"الصحوة" التي شهدها الإنتاج السينمائي في السودان على يد جيل شاب وواعي بقضايا وطنه وشعبه في السنوات الآخيرة، وتردد إسم السودان في التجمعات والمهرجانات الإقليمية والعالمية بل والمنافسة على الجوائز الفردية والجماعية، لم يكن ينقصها سوى أن تعود الخرطوم وبقية مدن السودان مؤهلة بدور العرض السينمائي بدلاً عن "عسكرة" المدينة، وتحويلها لمسارِح عمليات يموت فيها المدنيين وتنتهي فيها الحياة.
"وداعاً جوليا" ليس مجرد عرض سينمائي في دور العرض الكيّفة الباردة يرتادها المثقفين والمنبتين عن قضايا وطنهم وشعبهم بل هو صرخة "الوعي" و"الإستنارة" في زمن إستخدام الفن الرخيص وغير المخدوم لصالح صناعة الكراهية.
الفن المقدم من خلال عرض فيلم "وداعاً جوليا" هو صوت "لا للحرب" المؤمن بأن للفن والسينما دور أصيل في بناء وجدان الشعوب، وإصلاح كل الكسور المُركبة التي تصنعها الحروب. وهو السلاح الماضي الذي نواجه به "تتار" الكراهية والعنصرية والغير مؤمنين بالحياة كقيمة عالية وغالية بالإنسان.
فيلم "وداعاً جوليا" هو سينما الفن "النظيف" من شوائب التحشيد الجهوي والقبلي والتنميط المؤدي للتحيّز الضار بممسكات المجتمع. وهو نوع من الفن الذي يمثل مناعة المجتمع الطبيعية ضد فيروس الكراهية والعنصرية وكل متلازمات الحرب.
"أوسكار" الوعي هو الجائزة التي يستحقها الفيلم السوداني "وداعا جوليا" تقديراً للكاتب والمخرج والمنتج وطاقم التمثيل وكل من وقف وراء إنتاج هذا العمل الفني، وكل السودانيين الذي حجزوا مقاعدهم في دور العرض تشجيعا وإيماناً بكفاءة وقدرة السينما السودانية على معالجة الأزمة السودانية عبر "منبر السينما" جنبا الى جنب لمنابر السياسة.
"وداعاً جوليا" عرض سينمائي جاء في وقته تماماً، والعالم كله متسمّر أمام أسواء العروض لافلام الرعب والدمار الذي تصنعه الحروب. وفيه تحشيد لكل أدوات الفن لتشكيل مقاومتها لآثار الحرب، والتأكيد على أن الفعل المقاوم ماهو إلا فعل خليط لتشكيل الوعي في المجتمع تستطيع السينما أن تساهم فيه بقدر كبير وفعال.
"جرافيتي" الثورة ورسومات الفنانين السودانيين المؤمنين بالتغيير التي زينت شوارع وجدران مدينة الخرطوم وعطبرة ونيالا ومدني وبورتسودان والدمازين وكل مدن الثورة السودانية، وكذلك أصوات المغنين لم تكن مجرد مظهر إحتفالي مصاحب للفعل الثوري بقدر ما أنها كانت تجسيداً للقيم التي من أجلها قدم الشهداء أرواحهم، وذات الشوارع والجدران الان تقف شاهدة على ما فعلته الحرب وشتان بين المشهدين على ذات المسرح.
آثار الحرب والكراهية كبيرة ومؤثرة على الوجدان السوداني. ونحن الذين لم نتعافى من آثارها سابقاً جاءت حرب أبريل لتزيد في كيل المواجع، وليس أمامنا غير إستخدام قُدرة الشعب السوداني بسقفها الأعلى لمعالجة قروح الحرب. وما من ترياق لذلك أفضل من الفن الواعي والقادر على مخاطبة الوجدان السليم بلغة الفن التي يفهمها الجميع.