وداعا حبيب الكل هاشم كرار
ابراهيم علي ابراهيم
حينما سألته عن صحته قبل يومين، قال لي كدأبه انا بخير. وختم بكلمة: انا بحبك ياخ.
*كنت أجلس في مكتب الصديق الصحفي فتحي الضو في أسمرا وسط مجموعة من الناس حينما خبط باب الشارع، وجاء شخص مندفعا لينتزعني من مقعدي ويحتضنني وسط زهول الجميع. أنه هاشم كرار وكنا افترقنا لقرابة عقد من الزمان. طوانا المنفي هو الي الدوحة وانا الي القاهرة.
أخذني وخرجنا نجوب الشوارع، ونحكي عن السنوات المنصرمة، فقد اخذتنا المنافي وتشعبت بنا الدروب. وفي المساء انضم إلينا الصديق محمد عوض والصديق فتحي الضو وسهرنا حتي الصباح.
كان الصحفيون وغيرهم ممن أخذتهم المنافي يقصدون أسمرا في عطلاتهم لتعوّضهم عن غيابهم عن الوطن، بالإضافة لوجود المعارضة في إريتريا. وهذا يفتح لهم كوة لمعرفة ما يدور في الساحة السياسية، ليتمكنوا من متابعة ما يدور في صحفهم.
ولأن هاشم كرار دون الآخرين يملك (قرون استشعار صحفية نادرة) إن صح التعبير، فقد حصل علي صيد سمين. تتبع خيوطه بطريقه الخاصة. وكشف عن محادثات تدور في الخفاء بين المعارضة ونظام الإنقاذ، بينما تدور علي الحدود معارك العمل العسكري. فقد اكتشف هاشم أن د. صلاح الدين العتباني يقطن بالفندق الذي ينزل فيه مبارك الفاضل الأمين العام لحزب الأمة أوانها، بل في الغرفة الملاصقة لغرفته.
أحدث هذا الخبر دويا هائلا رغم أن كلاهما سعي لنفي ذلك وكان تبريرهم أن (صلة النسب بينهما) هي السبب في السكن المتجاور. وكان هذا له ما بعده حتي جاءت الجبهة اللإسلامية بالمعارضة إلي الوطن وتخلصت منها! فالاسلامويون لا امان لهم.
هاشم كرار من انقي واطهر الناس. جميلا نبيلا لا عداء له مع أحد. فهو يصادق حتي من لفظهم المجتمع، وتقدير ربي عظيم. وهو صاحب الغرائب والخبطات الصحفية. يجلب اسرار المجتمع الباطنية.
كنا نجلس في منزل الصديق الصحفي والشاعر محمد نجيب محمد علي، وبرفقتنا الشاعر الضخم التجاني سعيد، والموسيقي مبارك محمد علي. كنا نسهر أمام المنزل الذي يفتح علي ساحة شاسعة. أطل "هشومة" ومعه أحدهم وهو شخص لطيف من كبار سماسرة السوق في الخرطوم. أصر هاشم أن يحكي لنا قصته مع أحد قيادات الحزب الحاكم وهو دجال كبير، عرّضه لعملية نصب وخداع وإهانة، مما جعله ينصب له شباكا استمرت لزمن طويل وصرف عليها ملايين الدولارات. قصة من قصص الف ليلة وليلة. ظل يحكي لنا عدة مغامرات. استغرق ذلك بضعة ساعات دون أن يمل الحضور من سردها.
هاشم يمتلك هذه المقدرات الغرائبية التي افتقدتها الصحافة مع المنفي الذي أخذه وأخذ أعداد من جيل الكبار. وافتقدت الأجيال الجديدة ميزة التواصل مع العديد ممن سبوقوهم. وافتقدوا هاشم أحد المعلمين الذين استفادت منهم أجيالنا.
كان هاشم كرار يرأس تحرير صحيفة الجريدة التي ضمت فريقا متميزا من الصحفيات والصحفيين. ما زالنا نحتفظ بصداقاتنا. ويبدو أن تأثير هاشم ينداح علي الجميع، وينشر عبقا ساحرا يتسلسل إلي أرواح الجميع. ما هذا الجمال المفرط. هاشم الضاحك، الجميل، المبدع دائم الحضور.
كان متحركا علي الدوام. له مواقع ومآرب ومشاريع تحقيقات صحفية لا تتوقف. وكنت اعمل معه. كنت الاحقه ليعود للصحيفة ليكتب الأفتتاحية، أو ليعطي الأمر بالطباعة. وكان يمتص غضبي وصوتي العالي بضحكة أو مداعبة، وكثيرا ما كنت اتصرف كما يطلب مني.
ذهب عنا اليوم هاشم كرار. وبغيابه أشعر بفقد العديد من الأصدقاء ودخولهم في نفق مظلم من الحزن. أشعر بمحمد عوض وعبد الله الشيخ ومحمد نجيب ود. وجدي كامل وجمال السنوسي ونجيب نور الدين، وفريق الايام في مجدها وكثر هم أصدقاءه الذين لا يعدون ولا يحصون من مشارب مختلفة، دع عنك اصدقاء قطر التي أخذت نصف عمره. عمره العامر بكل الحب والخير.
وداعا يا صديقي والي لقاء. وعزاء لأماني قوليب ومحجوب وإخوانه والصديق عمر محجوب كرار والاخت فاطمة محجوب كرار ولكل أهل الحلة الجديدة بالحيصاحيصا، ولأسرة الصحافة السودانية.
هذا يوم حزن يا أحباب. يارب جاءك هاشم وهو يحبك وجعلته يحب كل الناس فعوضه خيرا وانت صاحب الفضل والكرم والحياة والممات. نشهد أنه احب خلقك وجاد بروحه من أجلهم. ونشهد أنه كان اجملنا.
انا لله وانا اليه راجعون