النموذج السوداني للعدالة الإنتقالية في مواجهة دولة الكراهية
خالد ماسا
"العدالة الإنتقالية ليست تطبيق لقانون ... إنما هي تطبيق لثقافة... وهذه الثقافة تعني أن يكون لدينا إبتداً قناعة بأن شعبنا قابِل لفكرة ومفهوم "التسامح"... هكذا تحدث لسان القانوني الضليع والمناضل الجسور والأديب المفوّه الراحل / كمال الجزولي عليه رحمة الله في تعريف مفهوم العدالة الإنتقالية والتي نعتقد بان فيه تأسيس لنموذج " سوداني" للعدالة الإنتقالية ناتج عن قراءآت متعمّقة في تجارب الشعوب الأخرى في مسألة العدالة الإنتقالية وإجراء مجموع مقاربات على الحالة السودانية المختلفة في سياقها وتحمل تجربة مجتمع متنوع في أعراقة وأديانه وثقافاته وتجاربه السياسية قبل وبعد الإستقلال شكلت نموذجاً مختلفاً عن تجارب العالم والإقليم.
في الفترة من السادس عشر من شهر مارس وحتى العشرين منه في العام 2023م أي قبل أيام من إندلاع حرب شهر أبريل من ذات العام إنعقد مؤتمر قومي تحت شعار "نحو بناء نموذج سوداني للعدالة الإنتقالية" والذي يعتبر أحد القضايا التي جاء على ذكرها الاتفاق الإطاري الموقع في الخامس من ديسمبر 2022م وأعتبرت توصياته واحدة من الأجزاء الأصيلة لما سُمي وقتها بالعملية السياسية والتي قطعت الحرب طريقها عند مناقشات ورشة الإصلاح الأمني والعسكري.
ترٍكة مرارات الماضي بالتأكيد هي أثقلت كاهِل الدولة السودانية وجعلت من النموذج السوداني في المظالم والمرارات هو النموذج الأصعب والأكثر تعقيداً لتنفيذ نموذج العدالة الإنتقالية من بين نماذج جنوب افريقيا وكينيا والمغرب وكولومبيا وكانت حصّة الثلاثة العقود الآخيرة المنصرمة من عمر الدولة السودانية هي الأكثر إسهاما ً في بناء جدار المظالم والمرارات والتي أعاقت ولازالت تعيق مسار التحول الديموقراطي والإنتقال السياسي السلس في السودان.
"أصحاب المصلحة"... هو التوصيف الذي إختاره المؤتمرون في المؤتمر القومي لبناء النموذج السوداني للعدالة الإنتقالية للذين شملتهم مظلة المظالم منذ منتصف العام 1989م وحتى ضحايا مابعد إنقلاب 25 اكتوبر وذلك وفقا لما هو منصوص عليه في الإتفاق الإطاري " مسألة العدالة والعدالة الانتقالية هي مسألة تقتضي مشاركة أصحاب المصلحة وأسر الشهداء وتتضمن جميع المتضررين من إنتهاكات حقوق الإنسان منذ 1989 وحتى الآن" ولم يخطر على بال أكثر المتشائمين من العملية السياسية بأن حجم وعدد الضحايا سيتضاعف باتساع دائرة الانتهاكات التي أوجدتها حرب منتصف أبريل من نفس العام.
نداءآت " لا للحرب" .. هي جزء من عمليات الوقوف في وجه مجتمع المظالم والمرارات والكراهية لصالح مجتمع العدالة وهي الخطوة الأولى باتجاه " النموذج السوداني" للعدالة الإنتقالية والتي تقتضي وجوباً إنصاف الضحايا وجبر الضرر الذي وقع عليهم بسبب حرب أبريل.
يجب أن يقوم النموذج السوداني للعدالة الإنتقالية على مبدأ كشف الحقيقة والتي تقودنا للجناة الحقيقيين وتوصيفهم التوصيف الدقيق وفقا للقانون والمعايير الدولية المعمول بها في جرائم الحرب وصولاً للإنصاف المطلوب للضحايا.
في النموذج الذي يخص الحالة السودانية فاننا محتاجين لتوصيف دقيق لماهية ومفهوم " العدالة الإنتقالية" تحديدا لاصحاب المصلحة ليقابل هذا التوصيف حملة " شيطنة" المفهوم التي تبناها أطراف الصراع في السودان والتي أظهرت المفهوم في حدود أنه أحد " تروس" ماكينة " التسوية السياسية والتي لاتحقق المباديء الأصيلة للعدالة والعدالة الانتقالية بتحقيق الانصاف للضحايا وتسد الطريق أمام إفلات الجناة من العقاب.
"التسامُح" هو سلوك أصيل في وجدان الشعب السوداني وهو يصلح كمسار معزز لبناء النموذج السوداني للعدالة الانتقالية لو أن الجناة والمتسببين في الانتهاكات لم تأخذهم العزة بالإثم وإعترفوا بجرائمهم وأسرجوا خيل الانتهاكات مرة أخرى في الحرب التي تدور الان فاوغروا الصدور وأجلوا عملية التعافي بخطاب الحرب والكراهية.
"الجُناة" في تعريف النموذج السوداني للعدالة الانتقالية ليسوا فقط هم من حملوا السلاح وقاموا باعمال العنف والتطهير العرقي فقط بل يتقدمهم من روجوا لخطاب التمييز والكراهية وشرعنوا بذلك كل إنتهاك طال الضحايا.
يجب ان ياتي النموذج السوداني للعدالة الانتقالية بادراك طبيعة التنوع الموجود في نوعية الانتهاك نفسه إذ انه في السودان قام على أساس الدين تارة وعلى أساس العرق تارة أخرى ووصلت فيه نماذج الانتهاك على أساس النوع الاجتماعي لاقصى حدود الجرائم بالاغتصاب.
في النموذج السوداني للعدالة الانتقالية يعتبر تعزيز مفهوم الاصلاح القانوني وإصلاح مؤسسات الدولة هو المسار الذي يقطع الطريق أمام الممارسات السياسية الغير ناضجة والتي تعيد تدوير المنتهكين وتساعدهم في الافلات من العقاب فبدون إنصاف الضحايا وإعادة كرامتهم تظل بذور الكراهية قابلة للانبات.
النموذج السوداني للعدالة الإنتقالية هو بمثابة " عقد إجتماعي" جديد ينتظم الدولة السودانية محكوم بقانون تشرف عليه مفوضية مستقلة للعدالة الانتقالية ليس من حقها السماح لكائن من كان بالافلات من العقاب بالعفو أو بمايخالف معايير القانون الدولي المتفق عليها وتكون فيه عملية العدالة الانتقالية عملية مستمرة غير محددة باجل زمني أو سياسي.