رحيل ود الأمين في زمان الحرب، الأسى المضاعف
الزين عثمان
مات الفنان السوداني محمد الامين، صاحب التجربة الإبداعية التي تجاوزت الستين عاماً، بعيداُ عن الوطن الذي لطالما صعد فوق كل مسارحه وعبر كل مدنه حاملاً عوده ناشراً الفرح والموسيقى. أغمض عينيه للمرة الاخيرة في أحد المشافي بمدينة فلاديفيا في الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد وفاة الفنان محمد الأمين فأن سودان ما بعد رحيله لن يكون هو السودان ما قبله. برحيله تنتهي حقبة كاملة من تاريخ الإبداع السوداني ومرحلة كان أبطالها محمد الأمين ومحمد وردي وعبد الكريم الكابلي، حقبة الغناء للوطن الحبيبة والثورة، ستينات القرن الماضي.
هو محمد الامين حمد النيل الازيرق المولود في مدينة ود مدني وسط السودان في العام 1943، وقد وصل إلى العاصمة الخرطوم في العام 1959 لتسجيل أغنياته في الاذاعة، لكنه عاد لمدينة ود مدني مرة أخرى قبل ان يعود مرة اخرى للاستقرار في العاصمة الخرطوم.
"الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الذين يبقون بعدهم على قيد الحياة". النص ينطبق تماماً على الحالة عقب رحيل ود الأمين. وما يزيد الوجع كيل بعير هو أن فنان السودانيين الأول مات بعيداُ عن وطنه، وما يزيد رحيله أسى هو أن يموت نجم مثله في زمن الحرب ولا يشيع في بلاده. يموت دون أن تتبعه الجموع التي غني أحلامها وألامها، ودون أن ينهال عليه تراب بلادا أحبها وبادله شعبها ذات المحبة. الأسي هو أن تتحول البلاد نفسها بفعل الحرب لنعش كبير.
الثلاثاء، ووسط حضور مهيب للسودانيين بالولايات المتحدة الامريكية، جرت مراسم تشييع الفنان الراحل محمد الأمين، حيث أديت الصلاة عليه في مسجد الهجرة قبل مواراة جثمانه الثري في مقابر "استانفورد". هناك ردد المشيعون الهتافات والتكبيرات. دفن ود الامين في امريكا بعد أن ضاقت به أرض وطنه. حرمت الحرب الملايين من تتبع نعشه في شوارع الخرطوم، واستقباله في مطار الخرطوم بموازاة مسرح نادي الضباط، حيث كان أبو الأمين يجمّل ليالي السودانيين عبر حفلاته. مات ود الأمين دون أن تتاح لمعجبيه فرصة تشييعه بما يليق به مثلما حدث لفنانين آخرين، خصوصاً وأن قيمة الناس وإبداعهم في السودان تظهر يوم رحيلهم وهو ما يطلق عليه محلياً "يوم شكر فلان".
في الحرب لا تضيق قط المساحات المتاحة لممارسة الحرب. عند الحرب تضيق حتى المقابر. ليس ذلك بسبب الجثث المتراكمة بفعل الموت. تضيق مقابر السودان بفعل صعوبة الوصول اليها. بسبب الحرب اضطر الكثيرون لدفن موتاهم داخل البيوت أو أمامها، فلم يعد الطريق نحو المقابر مفتوحاً كما كان في أوقات سابقة، وهو ما ينطبق أيضاً على الأقدام التي تشيّع من تحب.
اتسع السودان الكبير لود الامين في حياته، فلا تكاد تخلو مدينة من صوته. لا يكاد صوته يغادر مكان لبيع المشروبات في سوق نيالا غرب السودان حتى يستقر في مكان آخر لبيع الاطعمة في القضارف أقصي الشرق. يلتقيك ود الأمين بأغنياته في المواصلات العامة. أصحاب الكافتريات كانوا يبيعون الناس العصائر والسندوتشات وأغنية "زاد الشجون" بصوت ود الأمين.
رغم هذا الاتساع فإن ذات البلاد، التي غناها ود الامين حباً وثورة، ضاقت من أن توفر له شبر ينام فيه، وكأنه يؤكد نص للشاعر الراحل محمد الحسن سالم حميد في رثاء فنان سوداني آخر، هو مصطفي سيد احمد الذي رحل في الدوحة، "يوماتي تهاتي بيهو وطن وطن مع أنه أداك ميتة الغربة واستكثر عليك الكفن".
قبل وفاة الفنان محمد الامين رحل الكاتب الصحفي والشاعر والاشتراكي وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وعاشق أمدرمان المدينة، كمال الجزولي في القاهرة، حيث تم تشييعه ودفن هناك دون أن يجد شبر يتوسده في أمدرمان. وهو ما يؤكد على فرضية أساسية مفادها أن الحرب تفتح أبواب الموت وتغلق الطرق نحو المقابر.
رحل ود الامين، في أمريكا، في ساعة كانت روحه "مشتهية" ود مدني والخرطوم وشوارعها راغبة أن ترتاح بين الأيادي التي لطالما لوحت له بالامتنان وهو على خشبة المسرح، أو تلك التي لوحت له بالمحبة وهو يمضي في الطرقات. قُبر في أمريكا وهو الذي كان يحلم بأن ينام في أي جزء من بلاده بعد أن يتبعه الناس في طريقه إلى هناك. وهو العالم أن فلاديفيا ومقابرها لا تشبه مقابر فاروق بالخرطوم، حيث يرقد رفيق إبداعه في الملحمة الفنان محمد وردي.
ستنتهي الحرب، وبعدها يمكن أن ينقل رفاة ود الأمين لوطنه بينما يبقي السؤال، هل سيجد عشاقه ذات الوطن الذي غناه وهم من كان يردد ساعة رحيله بالحرب فقدت الخرطوم أمانها وبموت ود الأمين فقدت فرحها.