حرب أبريل المدمرة، هل ستعيد (أبيي) لواجهة الأحداث؟
عبدالرحمن العاجب
لازال الوضع في منطقة أبيي المتنازع عليها بين دولتي السودان وجنوب السودان، كما كان عليه في السابق، ولم تحسم حتى الآن الخلافات بين الدولتين بشأن المنطقة. وفي مطلع نوفمبر الجاري قال مسؤول رفيع بالأمم المتحدة إن اندلاع النزاع المسلح في السودان منتصف أبريل الماضي أوقف الإشارات المشجعة للحوار بين السودان وجنوب السودان، ومن ثم أدى إلى تعليق العملية السياسية فيما يتعلق بالوضع النهائي لمنطقة أبيي وقضية الحدود.
وقدم وكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام (جان بيير لاكروا) في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر احاطة لمجلس الأمن بشأن تفويض قوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة لأبيي (يونيسفا). وسلطت الإحاطة الضوء على آخر التطورات السياسية والأمنية والإنسانية، بما في ذلك تأثير القتال الدائر في السودان على الاتفاق حول الوضع النهائي لمنطقة أبيي. وقال (لاكروا) إنه يتعين على السودان وجنوب السودان احترام منطقة أبيي منزوعة السلاح وإجلاء قواتها. وأضاف "الأمم المتحدة، بالتنسيق الوثيق مع الاتحاد الأفريقي، تظل مستعدة لدعم استئناف الحوار وتراقب الوضع بحثا عن الظروف التي قد تسمح بذلك".
ونبه (لاكروا) الى أن بعثة الأمم المتحدة شهدت أيضاً زيادة تداول الأسلحة في أبيي، وهو الوضع الذي ربما تفاقم بسبب ما وصلت اليه الأوضاع في السودان، وبحسب (لاكروا) فإن الصراع في السودان خلق أيضاً صعوبات اقتصادية لسكان منطقة أبيي المتنازع عليها، حيث تعطل تدفق السلع الأساسية، والتي يصل غالبها من الشمال.
وأفاد المسؤول الأممي إن القوة الأمنية المؤقتة ساعدت في تقديم الدعم الإنساني إلى ما يقدر بنحو 220 ألف شخص في الأجزاء الوسطى والجنوبية من أبيي، بما في ذلك النازحين جراء الاشتباكات القبلية، والفارين من القتال في السودان. وأضاف (لاكروا) أن القتال خلق تحديات أمام الآلية المشتركة للتحقق من الحدود ومراقبتها التي تدعمها القوة الأمنية المؤقتة التي تضمن السلام في المنطقة منزوعة السلاح على طول الحدود بين السودان وجنوب السودان.
وأشار إلى توقف الدوريات الجوية بسبب القيود المفروضة على المجال الجوي وتابع قائلاً "إلا أن أفراد القوة الأمنية لا يزالون في مكانهم وتستمر المراقبة الأرضية في المنطقة الحدودية". ونبه إلى وجود ما يقرب من 200 من أفراد قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان، وجهاز الشرطة الوطنية لجنوب السودان في جنوب أبيي، وما يقدر بنحو 60 ضابط شرطة سوداني يحمون الأصول النفطية في شمال أبيي، مما يشكل تحديًا مستمرا للقوة الأمنية المؤقتة. ودعا السلطات في السودان وجنوب السودان إلى سحب أفرادها.
وتفيد المتابعات أن قوات (يونيسفا) تأسست في يونيو من العام 2011م من نحو 4 آلاف جندي إثيوبي، ترصد الحدود بين البلدين، ويسمح لها باستخدام القوة في حماية المدنيين والعاملين في مجال المساعدة الإنسانية في المنطقة.
وكان مجلس الأمن الدولي قد دعا الطرفين من قبل إلى سحب قواتهما من المنطقة. وأراد بقراره وقتها توسيع تفويض قوة الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة، ولكن بحسب المراقبين فإن بعثة (اليونسفا) لا يمكن لها أن تنسحب بشكل نهائي إلا بقرار من مجلس الأمن الدولي. وفي حال حدوث انسحابها سيحدث فراغ في المنطقة، فيما شدد بعض المتابعين على ضرورة وجودها وذلك لاعتبار أن القوات جاءت بموافقة الطرفين لتأمين المنطقة وتنظيم وجود المواطنين فيها.
وسبق أن اتفقت دولتا السودان وجنوب السودان في العاصمة الإثيوبية (أديس أبابا) على تنفيذ بند الترتيبات الأمنية، وتكوين المؤسسات المدنية لمنطقة (أبيي)، ووضع مصفوفة زمنية لتنفيذ الاتفاق الذي وقع عليه رئيسا البلدين في قمة رئاسية انعقدت بهذا الخصوص. ولكن بعد مرور أكثر من 12 عاما على اتفاق (أديس أبابا) بشأن المنطقة لم يتفق الطرفان حتى الآن على إنشاء إدارة منطقة (أبيي)، ودائرة الشرطة، وفقا لالتزامات حكومتي الدولتين الواردة في الاتفاق الموقع بينهما مسبقا، وبقيت قضية (أبيي) عصية على الحل منذ ذلك الحين وحتى الآن.
وفي السابق كانت منطقة أبيي تعتبر نموذجا للتعايش بين الثقافات والتداخل بين القبائل. وكانت المنطقة تعد الشكل المصغر للوحدة بين الشمال والجنوب، قبل الانفصال، قبل نحو 12 عاما. وكان استمرار التعايش داخلها يعد داعماً لعملية الوحدة بين الشمال والجنوب، ورغم تخصيص برتوكول خاص بالمنطقة ضمن اتفاق السلام الشامل، لكن ظل المشهد في أبيي لوقت طويل خليطا بين (الشك والظنون والخوف والترقب والاستعداد لأسوأ الخيارات).
وقبل انفصال جنوب السودان توصل الشريكان لخارطة طريق لمعالجة قضية أبيي قضت بالاحتكام لمحكمة العدل الدولية بلاهاي. وتحولت منطقة أبيي من نموذج للتعايش للنقيض، وأصبحت نموذجا للصراع الحاد بين الأطراف المختلفة، للدرجة التي دفعت البعض لتوصيفها بأنها ستكون بعد انفصال جنوب السودان (كشمير) الشمال والجنوب، مثل (كشمير) شبه القارة الهندية المتنازع عليها بين الهند وباكستان والتي تسببت في دخول البلدين في حربين مباشرتين بسبب التنازع على هذا الإقليم.
وظلت منطقة أبيي التي يعيش فيها المسيرية الحمر والدينكا نقوك محلا للنزاع لفترة طويلة لافتقار الأنظمة السياسية لرؤية منهجية وفكرية لحل النزاع. واتخذ الصراع في منطقة أبيي ثلاثة تحولات جوهرية قادت في النهاية إلى مايطلق عليه (التدويل). وهذه المراحل الثلاث بدأت بمرحلة الصراع التقليدي، وكان يتمثل في المشاحنات والتي في الغالب كان سببها التنافس على مصادر الطبيعة، والتي تسفر عن صراع عنيف ومسلح ودموي لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية واستراتيجية.
والبعد الثاني للصراع يتمثل في الصراع السياسي حول تبعية أبيي إلى شمال السودان أم جنوب السودان الأمر الذي جعل من المنطقه كلها مقرا للتوتر وبؤرة للصراع. أما البعد الثالث للصراع فهو دولي وهو آخر تطورات قضية أبيي. فقد تطورت قضية الصراع بين قبيلة المسيرية الحمر والدينكا نقوك إلى قضية دولية تأخذ حظا وافرا لدى الدوائر العالمية، ومراكز الدراسات العالمية، إلا أن للخطأ المنهجي الذي وقعت فيه الجهات المختصة في المرحلة الأولى للصراع أثرا كبيرا في تشكيل هذه المحصلة، ولقد اكتفت كل المحاولات السابقة بالحلول السياسية والأمنية من دون النظر إلى الإطار الاجتماعي (تاريخي ـ سياسي).
وأعطى اكتشاف البترول في المنطقة الصراع حولها بعداً إضافياً، وربما تسبب في إضافة تعقيدات إضافية من خلال تمسك الأطراف المختلفة بالمنطقة بدخول الذهب الأسود للحلبة، سيما إذا علمنا أنه يمثل المورد الأساسي لميزانيتي الحكومة السودانية وحكومة الجنوب على حد السواء. وبكل تأكيد فإن وجود حقول بترول (هجليج، دفرا، الميرم) بالإضافة لبحيرة كيلك ومنطقة ناما الزراعية كي تكون جزءا من بحر الغزال أسهمت في مجملها في إلهاب الصراع بين المسيرية والدينكا نقوك وساعد في تعقيد أوضاع المنطقة وجعل للصراع وجها ومعنى آخر بدخول عامل الثروة.
لكن الأمر الواضح أن المنطلقات التي تتحرك منها قبيلتا المسيرية ودينكا نقوك وإن بدت متفقة مع أنظمة الحكم في الدولتين، لكنها تختلف في جوهرها. فالمسيرية نقطتهم المحورية الحفاظ على ما يعتبرونه أرض الأجداد وضمان سلامة ثروتهم المتمثلة في مواشيهم بضمان استمرار حركتهم الموسمية بالتحرك للمراعي شمالاً وجنوباً، أما دينكا نقوك فينظرون للأمر من زاوية إعادة الحقوق التاريخية المسلوبة واستردادها، ولكن النظامين الحاكمين في دولتي السودان وجنوب السودان لا ينظران بعيون القبيلتين لـ (ظاهر الأرض) وإنما لأعمق من ذلك (باطنها) وتحديداً للنفط والمعادن ومن بعد لأهميتها الاستراتيجية باعتبارها نقطة ارتكاز ووصول لجنوب كردفان، وبحر الغزال ودارفور.