محمد الأمين: صورة للموسيقي خارج خشبة المسرح
يوسف حمد
منذ منتصف أبريل الماضي يُمتحن السودان بحرب عبثية مدمرة، قتلت الآلاف وما زالت شهيتها مفتوحة لالتهام المزيد، وهي امتداد لنكبات متكررة لم تستثن رقعة ولا حياة في هذا البلد المُمتحن في وجوده. وحتى يمعن الامتحان في التذكير بقسوته فقد نعى الناعي الموسيقار الفذ محمد الأمين (1940- نوفمبر 2023)، وبذا انهدت زاوية متينة من زوايا الثقافة والتعبير الثقافي في البلاد.
عرفت موسيقى محمد الأمين عندما كنت صبيا، ربما هو أول موسيقي عرفته في حياتي. ليس في هذا الاعتراف أدنى مبالغة؛ إذ شربتني العائلة محبة متوارثة لهذا الموسيقار العظيم. كانت أغنياته وموسيقاه حاضرة عبر الألبومات في جميع مناسباتنا، الرسمية منها والمفتعلة.
وإذا جاز أن نسمي ما كان لدينا من ألبومات (مكتبة صوتية) فإن بيوتنا في القرية كانت مليئة من محمد الأمين، مليئة بما يشبه أنها محتكرة له. وبغير ذلك، كانت سيرته على الدوام في أنس عائلتنا التي تقدسه بشكل أسطوري، وتحتشد لسماعه في أمسياتها القروية الصافية.
كانت سيرة محمد الأمين تأتينا مستقيمة، وعامرة بعلامات العبقرية والحذاقة والكبرياء، وما اجتُرئ من قبل الصحفيين وهواة النقد على القول بغير تلك الاستقامة التي تخالطها فكاهة تنسب إليه لتدلل على ظرفه وحضور بديهته، وربما أزعم أن هذا المزاج الصارم كان يتوافق إلى حد كبير مع مزاج عائلتنا التي تحب الاستقامة، ومليئة، في الوقت نفسه، بالظرفاء الخالدين بيننا بطرافتهم ونفوسهم الكبيرة.
بهذا الحضور وبغيره، دخل محمد الأمين إلى (كيتش) العائلة الكبيرة، وكان جزءا من هوية شبابها وشاباتها. وكانت العائلة فخورة بالانحياز لعبقريته وخياله الموسيقي، وليس من بين أفرادها من لا تطربه موسيقى وسيرة هذا الفنان النادر، الذي صك سطرا بارزا في تاريخ الموسيقى السودانية.
والحال كذلك، كان مفهوما بالنسبة لي سلوك ذاك الشاب المعجب الذي صعد ليعبِّر عن إعجابه لمحمد الأمين بسجدة على خشبة المسرح، كانت قد شغلت الرأي العام كثيرا في مفتتح حقبة الألفينيات، ووصفها المتشددون يومها بأنها شركا بالله وسجودا لغيره. ربما كنت أنا ذلك الشاب، بكل أريحية، لو لا الحياء، ولا يستبعد أن أكون قد عبَّرت، في سري، عن هذا الامتنان، وبهذه الطريقة، لآلاف المرات.
لاحقا، غادرت القرية ومحيط الأسرة وتأثيرها، فأتاحت لي الظروف فرصة لدراسة القليل من النوتة الموسيقية، وهذا ما جلعني أكثر استمتاعا بموسيقى محمد الأمين، وأكثر تفكيرا في البناء الموسيقي الخاص بأعماله المتحدية للسائد. وللمفارقة، لم تكن أعمال محمد الأمين كثيرة، بل قليلة جدا (بضع وثلاثين عملا) مقارنة بأكثر من 60 سنة من احتراف الموسيقى والغناء.
بعد عقد واحد فقط من بدء مشروعه الموسيقي، كان محمد الأمين ممسكا بزمام الأمر، ومدركا للطريقة التي ستبقي موسيقاه حية في نفوسنا، وهي العناية بهذه الموسيقى و"تطويرها" باستمرار، لذلك كان سهلا علينا، نحن المعجبين، أن نعرف أن محمد الأمين لا يغني بشكل ثابت كما لو أنه أسطوانة مسجلة أو شريط كاسيت.
دراستي للنوتة، وقبل ذلك إعجابي بمحمد الأمين، دفعاني لتبني آراء متطرفة ومنحازة، تفصل بين محمد الأمين، الموسيقار، وبين الشعراء وكتاب الأغاني الذين لحّن كلماتهم وغناها، وهذا الفصل يجعل من الشعراء والكتاب مجرد أتباع لمتبوع عظيم وصانع موسيقى ضخم وموهوب لا يدانيه حتى الاستثنائيين من الموسيقيين. وأرجو ألا تفهم هذه المفاضلة إلا في سياق التقريظ للموسيقى الخلاقة التي يبدعها محمد الأمين، وألا تسلب كتاب الأغاني مكانتهم في الإبداع والتعبير الثقافي.. لكن، مع ذلك، كان كل شيء يشير إلى محمد الأمين الموسيقار.