البرهان البحث عن ``سلم`` النزول
عثمان فضل الله
مابين مصدق ومكذب
ومابين مصدق يريد أن يكذب الواقع
ومابين مكذب للواقع يريد ان يصدق هوى نفسه
أنقسم اهل السودان وهم يرون ويسمعون بمواقع الجيش التي كثيرا ما وقفوا قربها برهبة واحترام، تتهاوى واحدة تلو الاخرى. كانوا مؤمنين بيقين لايدانيه شك بان الذي يجري بالداخل شئ عظيم ومهم رغم انهم لا يدرون ماذا يجري بداخلها لان قليل منهم ولج بواباتها العالية الا انها كانت تبعث في نفوسهم الطمأنينة، ويشعرون حيالها باحترام اقرب للقداسة.
عندما أشتعلت الحرب لم يكن احد يهتم فالقناعة الراسخة هي ان الجيش سيحسمها إن لم يكن اليوم فغدا، لذا لم يحمل من اجبره القتال على الخروج من منزله سوى قطعة او قطعتين من ملابسه. بل ان بعضهم ترك مبردات الطعام تعمل لانه كان متأكدا انه سيعود ان لم يكن خلال ساعات فخلال ثلاث ايام ان طال الغياب. باتت الايام الثلاث ثلاثين، وجرّت الثلاثين، ثلاثين اخرى والحبل على الجرار. وبدأت الاسئلة تتناسل وتضرب بشدة على العقول، ماذا يجري؟ ماذا يحدث؟ والسؤال يقود لآخر.
فالتقدم البائن لقوات الدعم السريع، في ميدان المعركة شاخص. فها هي تقترب من السيطرة على كامل إقليم دارفور، وأجزاء واسعة من إقليم كردفان، مع احتفاظها بالمواقع التي سيطرت عليها في معركة الخرطوم الجارية منذ 15 أبريل الماضي، مضيفين اليها مواقع جديدة مثل منطقة العيلفون، واخيرا قاعدة جبل أولياء الحصينة الي جانب قاعدة النجومي الجوية، وشيخ خزانات السودان الذي يحمل اسم المنطقة.
وكلما ازداد التقدم ازدادت التساؤلات وعلامات الاستفهام، وطفق كل يجيب على طريقته كل حسب موقفه السياسي والايدلوجي من المعركة، والجميع يحاول أن يهرب من الإجابة الواضحة والقريبة، لانه لايريد المواجهة مع ذاته. فالمعركة المستمرة على الارض تولّد معارك داخل النفوس. لا احد يستطيع ان يقول الاجابة التي تلحّ علينا جميعا لانها قاسية ومرّة، وهي بكل ألم (هذه مقدرة جيشنا. وان ما فعله هو حدود إمكانياته الحقيقية في هذه المعركة).
الجيش منهك، ومستهلك لدرجة كبيرة، اذ ظل منذ العام ١٩٥٦م لا يخرج من معركة الا ويدخل الى معركة أخرى في ظل بلاد تعاني بالأساس من تردي، وشحا في جميع الموارد، وعاشت ثلاثين عاما من الحصار الخانق مما أدى بالضرورة الي تهالك جميع مؤسساتها بما فيها العسكرية وفي مقدمتها الجيش.
في ظل هذا المشهد، ظلت فئة قليلة تدفع المجتمع بكل ما أوتيت من قوة لصب الزيت على نيران الحرب. وتدفع بالجيش رغم رهقه وضعفه البائن الي هلاكه غير آبهة بمآلات هذا التصرف، لأنهم فقط قد صعدوا بالجيش الي شجرة عالية والآن يجدون صعوبة في النزول. لقد زيّنت لهم أنفسهم إشعال هذه الحرب، دون تقدير موقف حقيقي، وبلا تقييم، ولاحتى تنبيه لهذه القوات بانها ستدخل في محرقة جديدة.
اشعلوا النار بلا خطاب سياسي وبدون توفير مطلوبات ملحّة، فلم يجدوا غير أن يسترجعوا خطاب حرب الجنوب، في تكرار ممجوج لمشاهدها التي لايمكن باي حال من الاحوال "تركيبها" على الوضع الراهن، فنتج "كولاج" شائه، ومرتبك وملتبس، أسهم بشكل واضح في اضعاف القوات المقاتلة التي لاتدري لماذا هذه الحرب، والي اي مشروع ستفضي اليه أن انتهت. وتوالى سقوط المواقع العسكرية وسط دهشتهم لا دهشتنا حتى كاد الجيش بعد ٨ أشهر من القتال أن يفقد او بالفعل فقد كل مخزوناته الاستراتيجية من الاسلحة داخل وخارج ولاية الخرطوم، وتم تدمير جل مقدراته من سلاح الطيران والمدفعية. وبات بحسب ما يتسرب من معلومات انه يعاني نقصا في الذخائر الخفيفة، مترافقا مع شح واضح في الدعم الدولي المادي والمعنوي أن لم يكن معدوما بالاساس جراء خطاب الاسلاميين البائس الذي اسبغوه على الحرب فعضددوا شكوك الكثير من الدوائر الدولية بأن القوات المسلحة ماهي الا "حصان طروادة" لعودة تنظيم الاخوان المسلمين الذي لم يعد مرغوبا فيه من أغلبية الشعب السوداني ولا من تلك الدوائر فوجد الضباط والجنود أنفسهم يقاتلون وحيدين غير مسنودين برضا الشعب مع عداء دوائر إقليمية وعالمية بعضه مستتر وآخر ظاهر.
وفي ذات الوقت تتحدث تقارير غربية، عن عواصم عربية وافريقية كانت الأقرب الي الجيش تاريخيا، وتتهمها بإسناد ودعم قوات الدعم السريع، بالعتاد والسلاح، بما في ذلك مضادات الطيران التي أسهمت في الحد من فاعلية سلاح الجو الذي يمثل نقطة تفوق بارزة للجيش في المواجهات القتالية المدمرة الحالية.
بدا أثر هذا الوضع في تخبط قيادة القوات المسلحة، اذ ترسل الرسالة وضدها في آن. ففي حين تقول ان الحرب هدفها القضاء على المليشيا حتى لايكون هناك جيشان في البلد الواحد فانها تدعم مليشيات اخرى بغرض كسب حربها. فقد فتحت الباب امام مليشيات الاسلاميين المتطرفة فكانت الكتيبة الخضراء، ولواء البراء بن مالك الذي يتباهى بانه يصنع الطائرات المسيرة، والمدافع المعدلة، ويوحي بانه الوحيد القادر على انهاء الحرب، وان الجيش نصفه خونة والنصف الاخر جبناء. وعندما شعرت القيادة بخطر هذه المليشيا لم تتجه الي السلام بل اتجهت الي صنع مليشيات اخرى ترياقا لها فكانت قوات مصطفى تنمبور، وعبد الله بندة، ومدت يدها الي عبد الواحد محمد نور، ولم تخفي ودها تجاه عبد العزيز الحلو، وتوصلت الي اتفاق مع مناوي وجبريل يقضي بدخول قواتهم الي الحرب والمقابل غير معلوم.
فقيادة الجيش ممثلة في القائد العام الفريق عبد الفتاح البرهان التي صعدت مع الاسلاميين الي اعالي الشجرة أضاعت سلم النزول، ولم تعد قادرة على الهبوط الي الارض للجلوس، والوصول الي سلام ينهي المعاناة، ولاهي قادرة على الاستمرار في طريق الحرب الذي باتت نهايته لا تخرج عن سيناريوهين. الاول أن تتمكن حركات دارفور من هزيمة الدعم السريع في دارفور لتخفيف الضغط عن الوسط والشمال وبالتالي تمكينها من الاقليم، وبالتوازي تمكين مليشيات الاسلاميين في الشمال من اختطاف النصر وتجييره لصالحها. اما الثاني وهو الاخطر بان تتمكن قوات الدعم السريع من توجيه ضربات موجعة للحركات في دارفور، ونقل حربها الي مدن الشمال الاخرى مما يعني بالضرورة انهيار الجيش وتفككه ويصبح عبارة عن جزر معزولة بحيث تحارب كل قاعدة في ولايتها وبالتالي تكتمل حكاية تفسيم البلاد الي دويلات متناحرة متحاربة.