السودان: حرب الرعاة التي قبل الحرب
يوسف حمد
"عدت يا سادتي". ليست كعودة الراوي العليم في (موسم الهجرة إلى الشمال). عدت بعد عقود من الغياب داخل الوطن، إلى غياب داخل ريف منسي مهمل. نسيناه نحن، بكل ضمير الانتلجنسيا والسلطة الرسمية؛ فأمعن هو في نسياننا. "عدت يا سادتي" من العاصمة إلى القرية بمشاعر مغايرة وأكثر كثافة من مشاعر بطل (الموسم) الفخور بغيابه، الفرح بعودته إلى (ود حامد).
عدت بمشاعر تشبه التنويم القسري المصطنع؛ كأن يبتلع المرء المؤرَّق، وفي دفعة واحدة، محتوى علبة كاملة من العقاقير المنومة. هو نوم، في ظاهره، لكنه ليس دافئا ولا لذيذا، وتحفه الكوابيس من كل لون. كذلك كانت عودتي إلى المربى الأول: مؤلمة وخشنة. عدت إلى المكان المهمل المتبدل، المتحشد بالغرابة والذكريات المطمسة.
صبيحة ذاك اليوم، وبلا أسباب موضوعية مقنعة، قامت الحرب واندلعت الحرائق من بنادق الجيش وقوات الدعم السريع.. امتلأ أثير الخرطوم بأصوات الرصاص، وغطت الأدخنة سماء المدينة العملاقة؛ ففزع الناس فزعهم الأكبر. خرجنا من ذاك الركام ونجونا من الموت بأعجوبة وتوفيق نادر، وكسبنا مواصلة الحياة، فيما فقدها الآلاف بكل أسف.
"عدت يا سادتي" إلى قريتنا التي تتوسط قرى مشروع الجزيرة الزراعي الضخم؛ فلم أجد فيها الحياة كما ألفتها. لقد انتهى قطيع الأغنام الذي رباه أبي، وهذه خسارة فادحة واجهها أبي بمشقة، وتلاشت بقراتنا ومات كذلك حمارنا الأبيض، وشيدت في مكان المرابط غرفة من طين الجالوص، تشققت مع السنوات ولم يعد يسكنها أحد.
في مايو الماضي، ضربت الدانات (سوق ليبيا)، أشهر الأسواق لبيع لحوم الماشية والإبل في العاصمة الخرطوم؛ فتطايرت أشلاء الجمال ونفقت في حينها. وحتى الآن لا أحد يسأل عن مئات الرعاة أو قطعانهم التي كانت تحتل شوارع الخرطوم، ربما مات جزاءا منهم. وفي كل الأحوال، لم يصدر اتحاد الرعاة أو أي منظمة شبيهة بيانا حول حادثة سوق ليبيا، وعد الأمر جزءا من خسائر الحرب العبثية عديمة المعنى.
هذا الصمت حيال الرعاة كان هو الديدن إزاء قضاياهم؛ فقد خسر أبي من قبل قطيعه، وكذلك خسر بقية الرعاة قطعانهم في حرب ضروس سبقت الحرب الحالية بسنوات، ففقدوا على إثرها الآلاف غير المحصية من الضأن والماعز، وفقدوا نمطا من الحياة التي كانت تبدأ من الضرع والصوف والجلود ولحوم تلك الماشية.. ومع ذلك لم يسمع بهم أحد.
قبل مئات السنين بنيت قرانا في هذا المكان معتمدة على الرعي والزراعة بالأمطار، وفي حقبة ثلاثينيات القرن الماضي، وما يليها، أصبح يتخلل تلك القرى مشروع (الجزيرة وامتداد المناقل) الزراعي، الممتد ليوفر نمط المعيشة المعتمد على الزراعة المهندسة بشقيها، النباتي والحيواني. ويعد مشروع الجزيرة في الوقت الحالي من أكبر المشاريع الزراعية المروية في أفريقيا، ويقع في مساحة تصل إلى نحو 2.2 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة التي يساعدها الري التكميلي.
إلى جانب المحاصيل، احتلت ماشية قريتنا، شأنها شأن القرى الأخرى، مكانة مرعية في الدورة الزراعية لذلك المشروع، وأفسحت لها مساحات للمرعى والحركة داخل الرقعة المزروعة، ومثلت بذلك وحدة موضوعية مع الزراعة وحياة الناس، كل منها يذكر بالأخريات.
"عدت يا سادتي"، لكن هذا التقليد الاقتصادي لم يعد مما تراه عيني، لقد اندثر أو أصابه الارتباك، فتقلص رسميا الإهتمام بالثروة الحيوانية بدرجة ملحوظة، على الأقل في أعقاب قانون المشروع المجاز قبل عقدين، إذ تحول المشروع ليعتمد على زراعة نباتية نقدية مستمرة طوال العام (القمح، القطن، الفول السوداني)، وأصبح لا مكان فيه للرعي المعيشي الذي خبرناه في صبانا.
لسنوات عديدة كانت الدورة الزراعية تترك مساحات بور داخل الغيط تنبت فيها الحشائش التي تعلفها الماشية، وخصصت أيضا دورات زراعية للأعلاف. وفي الواقع، بدأ المشروع في العام 1925 بدورة زراعية ثلاثية، قوامها زراعة الذرة والقطن واللوبيا، وخصصت الأخيرة لعلف الحيوان. واستمر على هذا المنوال حتى العام 1982 إذ تحول بعد ذلك إلى دورة رباعية، ثم لاحقا إلى دورة خماسية في العام 1992، إلى أن عدل قانون المشروع في العام 2005 الذي أحدث تعديلات في النظام الإداري للمشروع؛ فتراجعت الإدارة وانعدمت الضوابط.
رويدا رويدا، تبدل الأمر ودخل الناس في حرب اجتماعية مكتومة، انتصرت فيها الزراعة إلى حين، ثم سرعان ما تهاوت هي الأخرى؛ وإزاء ذلك قلّت الحياة في القرى، وأصبحت القرى نفسها مستودعا لعمال المياومة والباعة الجائلين اللاهثين لطلب الرزق البسيط في المدن القريبة والبعيدة وخارج حدود الوطن أحيانا.