02/12/2023

``نوستالجيا`` حرب أبريل

خالد ماسا
مع تطاول أيام الحرب وتطاول ألسنة لهبها والتي سلخت جلد الذاكرة السودانية ووجد الكثير من السودانيبن في المناطق التي تشهد عمليات حربيه أنفسهم بأزمان متفاوتة مضطرين للنزوح أو اللجوء الى أماكن أخرى ظنوا بأنها آمنة وتُنجيهم من الحرب.

الخرطوم .. الخرطوم التي وُلدوا فيها وترعرعوا.. الخرطوم التي دخلوها من كل باب.. الخرطوم التي زاد ضيق حروبات أخرى من إتساعها.. الخرطوم بشكلها وباتساعها الحالي الذي صنعها التوزيع الغير عادل للسلطة والثروة في السودان والذي أفرغ كل المدن في الولايات التي أفقرها سوء التخطيط وحول ثراء الريف السوداني إلى جحيم يفر منه المواطنين طلبا للعلاج والعلم ولقمة العيش الكريم .

من يريد أن يقرأ عن الحرب، ويتعرف بشكل دقيق على الذي أصاب السودانيين بسببها، عليه أن يطلع على الذي يتداولونه في صفحاتهم وما تتيحه منصات "التعازي" الاجتماعية والتي صارت وحدها حبال لتواصل الحزن الجماعي للشعب السوداني، فكتبوا عن موتاهم وتلقوا التعازي وكتبوا عن مفقوديهم سائلين الناس المساعدة، وكتبوا فيها عن جرحاهم وجراحاتهم لعل الأيام والأماني تشفي وتخيط الجراح.

خرج السودانيون من مدنهم.. من قراهم.. من بيوتهم، تلك المُشيدة بالأسمنت والمخمل أو تلك التي يغطيها القش و"الجالوص" وتقف على أعمدة المحبة.

كلهم خرجوا على عجل.. لم يجدوا أخف من أرواحهم لحظة إندلاع الحرب فحقبوها وتركوا وراءهم كل شيء لعناية المولى عز وجل.. " الأعشاش" و" الرواكيب" وأزقة المحبة العشوائية وسبل لقمة العيش العصية في غول أسواق الخرطوم المطلية بعرق شقاء المساكين.

خرجوا من "العمارات" السوامق التي إستوردت كل شيء من عواصم الهجرة والإغتراب، ومع ذلك لم تفقد ذرة من سودانويتها. وظل عمود حكاوي "الحبوبات" لأطفال فتحوا عيونهم على الخرطوم هو الذي يشكل وجدانهم بالبحث عن " شليل" الذي راح أو أكله "الدودو" كما تقول حكاوينا الشعبية .

يكتب السودانيون وإبر الصنوبر على جلد حروفهم بأن بعض من ظنهم بأنهم نجوا بارواحهم من الحرب وأنهم سيكونوا آمنين كان كله إثم .

علّق السودانيون أرواحهم على بوابات مدن "النزوح"، أو تركوها هناك في مطارات ومعابر "اللجوء" وخرجوا بأجل غير مسمى. وشوهت الحرب ذاكرتهم القديمة وحشدت رؤوسهم بذاكرة جديدة بمشاهد وأحداث سمعوا عنها ولم يألفوها .

أخرجت الحرب أثقالها وأخرجت السودانيين والملح المُر على خدودهم باحثين عن سُبُل تمنحهم وتمنح أطفالهم وأرواحهم "العيش" وبالتأكيد لن تمنحهم "الحياة".

دفن السودانيون آباءهم وفلذات أكبداهم داخل البيوت وفي الشوارع.. داخل أسوار الجامعات. دفنوهم بلا أكفان.. دفنوهم على عجل، فقط بأثمالهم التي عليهم لحظة مقابلة الموت وإنتهت مراسم عزاءآتهم بإنتهاء الدفن الذي غالبا كان بلا مراسم، وآخرين دُفِنوا تحت وصف "مجهولي الهوية".

يحزن السودانيون على رحيل الاستاذ الاعلامي والصحافي/ هاشم كرار ولم تكتب صحافة الخرطوم "مانشيت " العزاء، فقط أقام من يعرفون قدره من الاعلاميين سُرادق العزاء على صفحاتهم التفاعلية وتنطوي صفحة مهمة في الصحافة السودانية.

عانق السودانيون " فتراضياً" بعضهم البعض حُزناً على إنقطاع وتر عود الغناء السوداني برحيل "الباشكاتب" / محمدالأمين وسجلت أغنياته بُكائياتهم عليه وسكت هو لأول مرة ليغني كل الموجودين في مسرح الحرب .

لم يغادر السودانيون بعد سرادق العزاء الافتراضي حتى وأغمد الحزن نصله في خاصرتهم برحيل المناضل والشاعر والكاتب والمحامي/ كمال الجزولي، وسدت العبرات حلق المظلومين والباحثين عن العدالة والإنصاف والمقاتلين في صف الحقيقة والعدالة.. والحالمين بالعدالة الانتقالية.. و .. وكلهم لم تتفضل الحرب عليهم ولا دعاتها بشبر في تراب الوطن وكفن ملفوف بعلم الوطن الذي أنفقوا فيه حياتهم في سبيل حياة كريمة .

في الحرب.. مات حبر الأمة والعلّامة وغرّة منابر تدين السودانيين بلا غلو / الحبر يوسف نور الدائم، وكأن الحرب أرادت أيامها أن تُفرِغ الخرطوم من سكانها فقط بل من أركانها التي جعلت منها عاصمة .

يكتب السودانيون عن آثار الحرب وقد الهبت ظهورهم وصدورهم بل وكرامتهم أسئلة إجراءآت الدخول وإشتراطات التأشيرة والأقامه في مدن اللجوء وسُعار تجار ظروف الحرب والأزمات وظلم ذوي القربى في مدن النزوح .

يكتبون بكسور مركبة في الخاطر عن لافتات لأماكن شكلت ذاكرتهم في شوارع ومدن الخرطوم نقلها أصحابها لمدن النزوح واللجوء في محاولة لبداية حياة جديدة على رُفاة ذاكرة قديمة.

معرض الصور