ياسر العطا... دعوة لتشجيع المافيا الوطنية
حاتم الياس
ها نحن دخلنا ما بين النهرين
الناس هنا جنس آخر
فقراء وثرثارون ولهجتهم فى لين القطن
والباعة مِلحاحُون وحلاّفون
ولهم آذان تسمع رنة قرش فى المريخ.
هذا نوع فى كل نواحى القطر تراه
جنس رحَّال منذ بدايات التاريخ
أرض الذهب البيضاء بهم ضاقت
رغم الخزَّان المارد والذهب المندوف بهم ضاقت
فانبثُّوا فى كل متاهات السودان
فانبثُّوا فى كل متاهات السودان
الشىء المفرح أن لهم آذان
وعيوناً تعرف لون اللصِّ الرابض للقطعان
وسواعد حين يجدُّ الجدُّ تطيح
قصيدة قطار الغرب
محمد المكي ابراهيم
في الفترة الديمقراطية الثالثة بعد الإطاحة بنظام مايو، لا أذكر للدقة اُن كان ذلك الحديث في ندوة الميدان الشرقي الشهيرة للراحل محمد أبراهيم نقد أو في أحد اللقاءات التلفزيونية، لكنني أذكر حديثه عن الجيش السوداني والذي قال فيه إن ثمة حاجز نفسي عميق يقف بينهم وبين الجيش "رغم أن فيه ابنائنا". يقصد بذلك بعض الأقلية التي جففت الإنقاذ وجودها داخل المؤسسة بالأحالة المبكرة للمعاش أو بالأعدامات كما حدث لضباط حركة رمضان، أو بتلك التصفيات الغامضة التي حدثت إبان معارك جنوب السودان.
لعل نقد، هنا، يريد الإشارة إلى أن هذه مؤسسة الجيش لطالما تم تصميم عقديتها ألاستعمارية بالطبع في أنها موجهة بالأساس ضد تطلعات الشعب السوداني. ولطالما مثلت المذبح الأخير للثورات والأنظمة الديمقراطية التي كانت ستفتح أفق التطور السياسي لشعبنا، لكن كانت المؤسسة العسكرية والنخب التي تدعمها بالمرصاد دائماً لأفق التطور السياسي والديمقراطي لشعبنا.
الأمر هنا لا يتعلق بمجرد المغامرة العسكرية أو في نهج الأنقلابات الكلاسيكي كما هو معتاد في دول أفريقيا الشبيهة بوضعنا، لكن واقع الأمر أن الجيش في السودان، منذ أن وجد، كان التصميم المثالي النموذجي الاستعماري كأحد أدوات الضبط السلطوي القمعي الشديد الأثر لأعادة تشكيل الواقع السياسي والأجتماعي حتى لايخرج عن ما هو مكرس له في بنية دولة ما بعد الأستعمار، وهي دولة المطلوب منها أو قل بطبيعتها البنيوية الأجتماعية الاقتصادية أن تواصل الحفاظ على الإرث الاستعماري الذي استولدها لحماية مصالح الأقلية الطبقية التي ورثت الدولة. ويجب أن لا تخرج من الهندسة الأستعمارية بأيجاد نموذج تنموي مستقل يمثل مصالح شعوبها.
من الطبيعي أن يختلف الخطاب الأيدلوجي لهذه الأنظمة الذي يمنحها شرعية الحكم والتحدث باسم الوطن أو الشعب والدفاع عن مصالحه العليا يختلف من دولة الى دولة في افريقيا والعالم العربي. ففي تونس كانت دكتاتورية بن علي علمانية ليبرالية التوجه، وفي العراق وسوريا قومية، وفي لبنان مليشوية، وهنا في حالتنا كان الإسلام السياسي والتحدث نيابة عن الخالق والدين هو أحد أسوأ انواع الحكم التي شهدتها بلادنا في حقبة الإنقاذ.
ودون أن نغرق في التوصيفات ذات الطابع المعقد حول الدولة الأيدولوجية وأدوات التسلط والهيمنة، لفت أنتباهنا حديث الفريق ياسر عطا وأتهامه للإمارات العربية المتحدة بأنها تدعم قوات الدعم السريع ووصفه لها بالمافيا وليس دولة. والإمارات بلا شك دولة خطيرة، بدأت تثير العديد من الأسئلة لتورطها في كثير من النزاعات في العالم العربي والقرن الأفريقي، خاصة بعد موجة الربيع العربي. وثارت الأسئلة حول كيف تحولت هذه الدولة من دولة وديعة مكتفية بثرواتها مع شعب قليل التعداد إلى دولة طويلة الذراع والتأثير.
لكن هنا بدا لي أتهام ياسر العطا وكأنه يخير الشعب السوداني بين مافيا وطنية يمثلها جيشنا المنخرط في البزنس والتجارة بكل انواعها، والممثل الرسمي لطبقة الأنقاذيين. وبسبب حالة السُعار للثروة والنهب من موارد السودان نسيت طبقة البزنس من كبار جنرالات الجيش، وطبقتهم الأنقاذية، الاهتمام بالجيش نفسه وتأهيله ورفده بالمشاة. وهو ليس نسيان جاء بسبب السهو، لكنها حالة الدوران المحموم مع لغة المال وتراكم الثروات جعلت حتى من موضوع قضايا الدفاع والأمن نفسها في مؤخرة اهتمام المؤسسة العسكرية. لجأت لاستئجار الدعم السريع للقيام بهذه المهمات في دارفور أو حتى في اليمن، بظن أن الدعم السريع سيظل مثل الشركات الأمنية يستمر في التفرغ للمهام القتالية نيابة عن الدولة وجماعة طبقة البزنس الأنقاذية، دون أن يطور طموحه وبشكل مفاجئ ويعلن رغبته في الوصول للحكم، أي لمصادر الثروات نفسها. بينما يتفرغ الجيش وكبار الجنرالات كلياً لأعمال التجارة البزنس المشبوه.
هنا ياسر العطا وهو يلقي اتهامته لأستدرار الحمية الوطنية التي أنتهت في تركيبتها الأيدلوجية الجديدة، بعد أنحسار خطاب الشريعة والدين لحالة يتطابق فيها الجيش مع مفاهيم الوطنية الوطن، يطالبنا بالانحياز (للص الوطني) الذي ينهب مواردنا على أن لا تأتي مافيا أجنبية أخرى لتنهبنا وتنهب مواردنا.
منذ أن وصلت الأنقاذ للسلطة كان النمط المافيوي سياسياُ واقتصادياً هو ما أعتمدت عليه جماعة الأسلام السياسي، سواء كان في شكلها السياسي التنظيمي الذي خلق من الحركة الإسلامية السودانية قوة اقتصادية هائلة قسمت بين افرادها وتنظيماتها الأمنية والسياسية موارد الدولة السودانية. فبدأت بخصصة مؤسسات الاقتصاد السوداني وتوزيعها بأبخس الأسعار لمنسوبيها خلال فترة التمكين، إلى جانب المصارف العديدة التي تم تأسيسها وكانت مملوكة للإسلاميين الذين سيطروا على المجال الاقتصادي تماماُ. وكانت الطرفة أن وسط دعايتهم الدينية الكثيفة، التي حولت أجهزة الأعلام الرسمية وكل ملامح الحياة لنمط رمزي إسلامي هزلي، بأن قال بعضهم أنه تحت تأثير الخطاب الديني الكثيف أدخل الأسلاميين الشعب إلى الجامع وخرجوا هم من الجامع للسوق. ولعل شهادة أسامة بن لادن، الذي تم أستدراجه للسودان مع جماعات أخرى من حركات الأسلام الجهادي، مقولته مشهورة بعد أن نهبت أمواله التي جاء بها للسودان بظن أنه جاء إلى إخوته في الإسلام والرؤية الجهادية، بأن النظام في الخرطوم جماعة خليط بين عمل السياسة والعصابة المنظمة.
وربما لن ينسى السودانيين أسرة البشير نفسه واشقاءه كنماذج للمافيا العائلية وفسادها. وحادثة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك التي راح ضحيتها فنان سوداني مشهور، يقال أن حظه السيئ أنه كان في رحلة فنية لأثيوبيا وصادف المجموعة التي نفذت محاولة الاغتيال، إلى آخر عملية أغتيال في شارع الستين لذلك الضابط الشاب الذي كان متورطاُ في عمليات فساد داخل مكتب والي الخرطوم.
كثير من المثقفين السودانيين والناشطين أنخرطوا بشكل عاطفي لا يعدم مطلقاً الخلفية الاجتماعية والأيدولوجية أو حتى الدواعي العنصرية، التي رأت في أحتلال الدعم السريع للخرطوم والأنتهاكات التي قام بها هي ربما استعادة سقطت من خيال التاريخ على الراهن. فبدت الخرطوم الحالية وكأنها متمة عبدالله وسعد في ذلك الزمان. وكأن هذه الحرب هي حرب (الجهادية الثانية) يستعاد فيها صراع أولاد البلد مع الغرابة، ويتم فيها توظيف خطاب الوطن والوطنية الذي يمثله الجيش ضد الدعم السريع القادم بمرتزقته من النيجر وتشاد ومالي. لذا ستصبح بقدرة قادر المافيا الإنقاذية القديمة هي من تشكل الوطنية الآن وهي من تدعونا لمقاومة مافيا الإمارات ذات الذراع الطويلة.
لايبدو لي الموقف هكذا بأي حال، فالحركة الشعبية والمدنية السودانية لا يمكن أن تقاتل وتصطف لحماية (المافيا المحلية)، ويمثلها بوضوح هذا الجيش بجنرالاته ومنظومته الدفاعية التي تتاجر ففي كل شي من الاحذية وحتى الدواء والذهب والصمغ والبترول والمخدرات، وكل همها الوقوف ضد الخيارات الوطنية الشعبية في الديمقراطية وفتح الطريق أمام سيطرة الشعب على موارده ومقدراته، وبين مافيا أخرى خارج حدودنا.
ليس خيارنا هو حماية اللص الوطني واٍن أرتدى بزة العسكر وبرز في ثياب الوطنية والأنتماء للأرض والشعب حينما أحس أن طرف أخر يريد أن ينحيه من مصادر الثراء المجاني والسيطرة على جهاز الدولة.