العدالة الجنائية في سياق العدالة الانتقالية
في سياقات ترتكب فيها فظائع جماعية وانتهاكات حقوق الإنسان على نطاق واسع، يتعذر إحقاق العدالة الجنائية باعتماد المُقاربة والموارد الضئيلة نفسها المعتمدة في آليات العدالة العادية. فالتماس المحاسبة الجنائية في أحوال مماثلة غالباً ما يتطلب ملاحقات استراتيجية، ومنهجيات تحقيق خاصة ومجموعة واسعة من العمليات المعينة، بالإضافة إلى توليفة من المقاربات، الجزائية منها والإصلاحية على حد سواء. ففي نهاية المطاف، يجب أن تؤول هذه المبادرات إلى الاستجابة لمصلحة العدالة وحقوق الضحايا، والمساعدة على إعادة بناء نسيج المجتمع الاجتماعي والمؤسستي ودفع السلام المستدام قدماً.
يشكل التحقيق في الجرائم الدولية وملاحقتها قضائياً – بما في ذلك جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب – مكوناً أساسياً من العدالة الإنتقالية. ويرجع أصل هذا المكون إلى المحكمتين الجنائيتين الدوليتين الخاصتين بيوغوسلافيا السابقة ورواندا.
فمن شأنِ التحقيق مع القادة النافذين (السياسيين منهم أم العسكريين) ومحاكمتهم على حد سواء أن يساهما في تعزيز سيادة القانون، وأن يبعثا رسالة قوية مفادها أن الجرائم المماثلة لن يسمح بها مطلقاً في مجتمع يحترم الحقوق.
ولا تزال المحاكمات مطلب الضحايا الأساسي. فَهي، متى أُجرِيت على نحو يعكس حاجات الضحايا وتوقعاتهم، أمكنها أن تضطلع بدور حيوي في استعادة كرامتهم وإحقاق العدالة واسترجاع الثقة بمؤسسات الدولة.
إلّا أن الملاحقات القضائيّة وحدها لا يمكنها إحقاق العدالة. فطبيعة الجرائم واسعة النطاق غالباً ما تبطل إمكانية معالجتها عبر نظام العدالة الجنائية العادي – وهو الأمر الذي يحدث "ثغرة الإفلات من العقاب". وغالباً ما تركز استراتيجيات الملاحقة الفاعلة الخاصة بالجرائم واسعة النطاق على مدبرِي الجرائم ومنظميها، أكثر من تركيزها على الجناة الأقل شأناً أو مسؤولية.
ومن الممكن أن يساهم تطبيق استراتيجيات الملاحقة القضائية إلى جانب مبادرات أخرى – مثل برامج جبر الضرر، وإصلاح المؤسسات، والبحث عن الحقيقة – في سد "ثغرة الإفلات من العقاب"، وذلكَ من خلال ملاحقة الجرائم التي تشمل عدداً كبيراً من الضحايا والجناة.
الملاحقات القضائية المحلية
قد تحدث الملاحقة القضائية على الجرائم الدولية أثراً أكبر في حال أُجرِيت محلياً، ضمن المجتمع الذي ارتكبت فيه الجرائم. إلّا أن المجتمعات الخارجة من نزاع معين أو التي تمر بمرحلة انتقالية، قد تفتقر الإرادة السياسية للملاحقة في شأنِ هذه الجرائم، وقد تكون أنظمتها القانونية في حالة من الفوضى العارمة.
حتى الأنظمة القانونية المتطورة – التي تعالج بشكل أساسي الجرائم العادية– قد تفتقر القدرة على معالجة هذه الجرائم بفاعلية، على الرغم من التقدم في الجهود الدولية الرامية إلى التعاونِ على التوثيق والتحقيق والملاحقة في شأنِ جرائمَ تصنف دولية بموجب مبادئ الولاية القضائية العالمية، ولعل أبرزها الجهود المبذولة في إطارِ ملاحقة أوغستو بينوشيه والرد على الفظائع الجماعية المرتكبة في سوريا. فقد كانَ من شأنِ تطبيق مبادئ الولاية القضائية العالمية – التي تجيز ممارسة الولاية القضائية على المتهم، بصرف النظر عن مكانِ وقوع الجريمة المزعومة أو عن جنسية المتهم أو محل إقامته- أن أدى، مثلاً، إلى إدانة رئيس تشاد المنفي حسين هبري بتهم ارتكاب أعمال عنف.
الملاحقات القضائية الدولية
قد تفرض هذه المشكلات، أحياناً، أنواعاً أُخرى من المقاربات الدولية التي تستمد من الممارسات الفضلى المعتمدة في أماكن أخرى – على غرارِ إنشاء المحكمتين الجنائيتين الدوليتين آنفتي الذكر أو إنشاء محاكم "مختلطة" تضم فاعلين، دوليين ومحليين، في مجال العدالة. وقد أُنشأت هذه المحاكم في كل من سيراليون، والبوسنة، وتيمور الشرقية، وكمبوديا.
المحكمة الجنائية الدولية
في العام 2002، أنشأ نظام روما الأساسي المحكمة الجنائية الدولية. وهي محكمة تنظر في الإبادات الجماعية، وجرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة منذ الأول من يوليو من العام 2002، فتحقق مع المسؤولينَ عنها وتحاكمهم - حيثما تكون الدول غير راغبة في ذلك أو غير قادرة عليه.
وبموجب مبدأ "التكامل" المنصوص عليه في نظام روما الأساسي، يقع على عاتق المحاكم المحلية واجب إحقاق العدالة. وبناء على ذلك، ليست المحكمة الجنائيّة الدولية سوى الملاذ الأخير. وقد شهدت السنوات الأخيرة تزايداً في تأدية المحاكم المحلية هذا الواجب الملقَى على عاتقها.
لا بد من مكافحة الإفلات من العقاب ودعم سيادة القانون ضمن الولايات القضائيّة المحلية وعلى المستوى الدولي على حد سواء. وغالباً ما ينطلق هذا العمل بدعم جهود المجتمع المدني الرامية إلى توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المستمر ارتكابها. بعدَ ذلك، يستكمل العمل عند إجراء المجتمعات مفاوضات السلام ثم انتقالها إليه وتنفيذها آليات المحاسبة المعقدة على غرارِ المحكمة الخاصة للسلام في كولومبيا.