الحقيقة والعدالة والمصالحة بعد النزاعات الأهلية
ألبر داغر
صدرت خلال العقدين الأخيرين أدبيات كثيرة حول قضايا الحقيقة والعدالة والمصالحة بعد الحروب الأهلية، أو تجارب العنف السياسي الجماعي. أظهرت تجارب يوغوسلافيا السابقة ورواندا وأفريقيا الجنوبية والأرجنتين طرقاً مختلفة للربط بين كشف الحقيقة وتحقيق العدالة والمصالحة. بدا في جميع هذه الحالات، كشف الحقيقة (truth) عن الارتكابات السابقة مدخلاً، إما للعفو والمصالحة (reconciliation) كما في أفريقيا الجنوبية، أو للملاحقة القضائية (justice)، كما في يوغوسلافيا السابقة ورواندا، أو للمحاسبة المجتمعية(societal accountability) كما في الأرجنتين.
الكشف عن الحقيقة
في الحالات المذكورة وغيرها، كانت نقطة الانطلاق، معرفة الماضي. في تجربة أفريقيا الجنوبية، أُقيمت "لجان للحقيقة والمصالحة" (Truth and Reconciliation Commissions)، كان مرتكبو الجرائم يعترفون أمامها بما قاموا به. وهي لجان لم تكن لديها سلطة قضائية. وهي أتاحت تكوين الأرشيف الوطني من الارتكابات. وقد أمكن في نهاية المطاف، تقديم صيغة مكتوبة موحّدة للحقيقة (بانكهيرست، 1999: 241).
وفي حالة يوغوسلافيا، جاء الكشف عن الحقيقة في سياق عمل المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا (ICTY) التي أُنشئت بقرار من مجلس الأمن عام 1993، ولاحقت المسؤولين الرئيسيين عن الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت. لكن بقاء الكشف عن الحقيقة محدوداً، جعل ناشطي المجتمع المدني وبرلمان الاتحاد الأوروبي يقترحون إنشاء «لجنة حقيقة ومصالحة» إقليمية، تشمل الدول الحالية التي كانت ميدان النزاعات، لاستكمال مهمة العدالة والعمل من أجل مصالحة لم تتحقّق (زيباري، 2012: 10.) أما في حالة رواندا، فكانت ممكنة معرفة الحقيقة كاملة من اعترافات المرتكبين أمام المحاكم المحلية (Gacaca)، التي تنتمي إلى تراث رواندا في حل النزاعات والمصالحة، والتي وفرت الدولة لها الشرعية القانونية اللازمة للتصدي لأثر مجازر 1994، وكان أعضاؤها ينتخبون من السكان المحليين. حصدت المجازر نحو مليون شخص، ثم اعتقل 120 ألف مرتكب (كلارك، 2012: 3). وقامت المحاكم المحلية التي بلغ عددها 11 ألف محكمة، بإصدار الأحكام على نحو 400 ألف شخص من المرتكبين. كانت كلفة المحاكم المحلية على مدى عشر سنوات نحو 40 مليون دولار، في حين كلّفت المحكمة الجنائية الدولية لرواندا (ICTR)، التي أُنشئت هي الأخرى بقرار من مجلس الأمن، وحاكمت 69 شخصاً من كبار المسؤولين على مدى 15 عاماً، نحو مليار دولار (المصدر نفسه: 7).
إنشاء "لجان حقيقة"
قاعدة تصلح في حالة كل البلدان الخارجة من نزاعات
وفي الأرجنتين، أشرعت اعترافات أحد الضباط المتورّطين في عملية إخفاء وقتل ثلاثين ألف أرجنتيني من المحسوبين على «اليسار»، في «الحرب على التخريب» التي أشرعها الانقلاب العسكري عام 1976، سيرورة جديدة ابتداء من عام 1995، هدفت إلى كشف الحقيقة بعد صمت دام عقدين (فان درونان، 2010: 89). كان الجنرالات الذين قادوا الانقلاب قد لوحقوا وسُجِنوا عام 1985، ثم أفرج عنهم الرئيس منعم عام 1990. كان ثمة قانونان صدرا خلال حكم الرئيس ألفونسان، يمنعان ملاحقة من هم من الرتب الأدنى، باعتبار أنهم كانوا ينفّذون الأوامر. أضاف منعم إلى القانونين عفوين رئاسيين أفاد منهما قادة الانقلاب وبضع مئات من المتهمين. ثم بقيت الأمور عند ذلك الحد، إلى أن قام الضابط الناقم على إعاقة ترقية رفاقه، بالكشف عن الحقيقة أمام جمهور المواطنين على شاشات التلفزيون. تلت ذلك حقبة من التعبئة في أوساط الأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان، دفعت الدولة للإقرار بحق الناس في معرفة الحقيقة، وأتاحت رفع دعاوى للكشف عنها (truth trials). وافقت المحاكم على إقامة الدعاوى، بهدف دفع المدّعى عليهم للكشف عما فعلوه، من دون أن تترتب على ذلك ملاحقات قانونية تجاههم، بحكم إفادتهم من القانونين والعفوين الرئاسيين اللذين سبق صدورهما (المصدر نفسه: 98).
المقاربات المختلفة للعلاقة بين الحقيقة والعدالة والمصالحة
الأكثر شهرة بين المقاربات المختلفة للتعاطي مع نتائج النزاعات الأهلية، هي تجربة أفريقيا الجنوبية. وذلك لجهة إعلاء شأن الحقيقة والمصالحة، أو الحقيقة مع العفو. كان كشف الحقيقة والاعتراف بالارتكابات من قبل المسؤولين عن الجرائم، يستدرج عفواً أو غفراناً بالمعنى المسيحي للكلمة، ومصالحة. أعطى حضور الأسقف ديزموند توتو في قلب ذلك السياق للتجربة الأفريقية الجنوبية خصوصيتها. وهي أعطت أهمية كبرى للغفران بديلاً من العدالة (بانكهيرست: 245). وكانت الأكثر نجاحاً لجهة التطبيق. وفي تجربة رواندا، تقدمت فكرة العدالة على ما عداها، أي ملاحقة المرتكبين، بعد تكوين الحقيقة بشأن الارتكابات، من دون الاهتمام بالمصالحة (المصدر نفسه: 252). وطغت المقاربة التي تربط بين الحقيقة والعدالة، أي ملاحقة المرتكبين، في تجربة الدول المنبثقة من يوغوسلافيا السابقة. بلغ عدد المسؤولين الذين أخضعتهم المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا للمحاكمة، بدءاً من رئيس صربيا، ميلوسيفيتش، 161 شخصاً (زيباري: 2). وفي حالة الأرجنتين، ربط ناشطو منظمات حقوق الإنسان والأحزاب السياسية بين تردي أوضاع الديمقراطية الأرجنتينية، لجهة استفحال تجاوزات الأجهزة الأمنية، وتهاون الجهاز القضائي، وتزايد عدم المحاسبة والإفلات من العقاب، وبين العفو الذي حصل عليه المسؤولون عن الارتكابات أيام الديكتاتورية. وجدوا أن التركيز في مطلب المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب، يحسّن أداء النظام السياسي الذي يعيشون في ظلّه (فان درونان: 96). وعام 1998، ألغى البرلمان قانوني العفو السابقين، وأبقى للمرتكبين الحق بعدم التعرّض للملاحقة. وأشرعت التجربة مقاربة فريدة بعض الشيء من «المحاسبة المجتمعية» (سميلوفيتز وبريزوتي، 2000؛ أودونيل، 1998)، هدفت إلى جعل «المجتمع سجناً للمرتكبين». وقد عمد الناشطون إلى التحرّي عن الارتكابات وكشفها، وإقامة اعتصامات وتظاهرات أمام بيوت المرتكبين (فان درونان: 102).
لبنان والكشف عن الحقيقة
رأت الباحثة بانكهيرست أن تشكيل «لجان حقيقة» قاعدة تصلح في حالة كل البلدان الخارجة من نزاعات أهلية أو تجارب عنف جماعي. بل هي تلعب أحياناً دور البديل من الملاحقات لأجل العدالة (بانكهيرست: 249). وتعكف مؤسسات دولية على استعادة التجربة اللبنانية في العنف السياسي، خلال الحرب الأهلية وبعدها. وهي تُصدِر تقارير حول تكلفة عدم التعامل مع الماضي (بيكار ورمسبوتهام، 2012؛ المركز الدولي، 2013 و2014). ذكرت الباحثة بانكهيرست أن شروط إعداد التقارير الوطنية للبلدان المختلفة التي تمولها الجهات الدولية هي غالباً غير مناسبة، خصوصاً لجهة المهل الزمنية المعطاة لإعدادها( بانكهيرست: 247).
وهو ما يتبدى في قلة أهمية وعدم جدوى ما يصدر عن هذه الجهات. يختصر فيلم إليان الراهب المخصّص لـ «البحث عن الحقيقة» حالة لبنان. يُخضِع الميليشياوي السابق الراغب في الاعتذار من ضحاياه، الباحثة عن الحقيقة لمزاجه. يقرّر ما يرغب بقوله وما لا يرغب باستعادته. يحوّل الإقرار بالمسؤولية عن موت الآخرين نوعاً من التهريج.
تصحّ كلمة التهريج أيضاً، في وصف تعاطي النخبة السياسية والدولة مع الحقيقة عن الحرب.
*باحث لبناني